منذ أسابيع، بل ربما شهور، أقاوم هاجس ان الكلام خلص. نفد. انتهى.
يسيطر على ذهنى ووجدانى إحساس واحد: أننا نعيش عصرا بالغ الانحطاط، نتساءل فيه كل يوم هل وصلنا إلى القاع؟ فيفاجئنا الغد بانحطاط جديد.
حصاد الثلاثاء:
(١) سيدة تجلس فى مقهى فى جاردن سيتى تسمع ثلاثة أشخاص ــ رجل وامرأتان على ترابيزة مجاورة ــ يتحدثون فى السياسة بخليط من العربية والإنجليزية. تصرخ السيدة فيهم: «انتو عايزين تخربوا البلد»، وتخرج إلى الشارع فتستدعى لهم الأمن الحارس للسفارة البريطانية فيأتى. ولأن الرجل هو الصحفى المرموق، المحب لبلادنا، آلان جريش، ولأنه يرفض أن يغادر بدون زميلتيه، ينتهى الموضوع بسلام بعد ساعتين ولا يضاف ثلاثة جدد إلى قائمة الصحفيين المحبوسين.
(٢) طفل مضمد الوجه يقر «الأبله خرمت عينى بقلم رصاص عشان بالعب».
(3) مقرئ قدير فى جامع كبير من أهم جوامع العاصمة، له صوت يضوى فى الصحن وفى الديوان، يتهدج الصوت فتسرى ارتعاشة الرهبة فى قلبك. الرجل يسكن على بعد أكثر من ساعتين بالمواصلات عن محل عمله. يقول لى أنه يفكر جديا فى المغادرة. جاءه عرض مغرٍ فى الإمارات: سيدفعون له ألفى جنيه فى الشهر، ويسكنوه فى غرفتين وصالة بالقرب من العمل فى مسجد صغير. وهو لن يقرأ، سيبدأ بتنظيف المكان، ثم سيتيحون له أن يدخل مسابقة، فإن كسب فيها سيسمحون له أن يقرأ، وسيزداد راتبه.
لم أعد أدرى لماذا أكتب. لا أريد أن يكون دورى هو أن أسجل انحطاطا بعد انحطاط.
هل أسجل، إذن، بوارق أمل؟ أراها أحيانا لكنى لن أسجلها، لن ألفت الأنظار إليها، بل سأتضرع إلى الله فى كل ساعة أن يخفيها عن العيون حتى لا تطالها يد التدمير الهائجة فى بلادنا اليوم.
هل لأشارك بما تجود به رؤيتى المتواضعة، فأشير وأظل أشير إلى الطريق الذى علينا أن نسلكه معا؟ لكن هذا يفترض أن هناك اتفاقا ــ على الأقل ــ على الغاية، على المكان الذى نريد الوصول إليه. وأنا لم أعد متأكدة أن عندنا مثل هذا الاتفاق. لم أعد أومن بأن من يحددون الطريق يريدون الوصول إلى ما طالب به الناس من اقتصاد قوى، وحياة آدمية للجميع.
فى تقديرى أن من يمسكون، أو يحاولون الإمساك بمقاليد الأمور حاليا يرون أن الرئيس المخلوع، حسنى مبارك، أخطأ حين خطط لتوريث ابنه حكم البلاد ــ خصوصا وأن هذا الابن جاء محوطا بنخبة اقتصادية من خارج الأجهزة، وأخطأ حين سمح ــ أو اضطر للسماح ــ بهامش من حرية التنظيم والتعبير المعارض. وهم الآن يعملون على تدارك هذين الخطأين.
لا فائدة إذا فى الكتابة لهم، ولا لمن يتمسكون بالأمل فيهم، ولا لمن نفضوا أيديهم من كل شىء.
أكتب، إذن، فقط لأحافظ ــ مع الزملاء والرفاق الباقين ــ على بقية من مساحة تتقلص، نستعملها ــ طالما هى متاحة ــ حسبما تقتضى الظروف، وأشارككم فيها اليوم فقرات من رسالة المصور الصحفى، أحمد جمال زيادة، المحبوس فى سجن أبو زعبل منذ ٢٨ ديسمبر ٢٠١٣، حيث كان يصور اشتبكات الأمن مع طلبة جامعة الأزهر، والمضرب عن الطعام منذ ٨١ يوم ــ وأنا آسفة يا أحمد إن ده كل اللى قادرة أقدمهولك:
(1)
فى مرة من المرات العديدة اللى استدعانى فيها رئيس المباحث للضغط عليا عشان انهى اضرابى عن الطعام، قابلت بالصدفة نائب مأمور قسم تانى مدينة نصر فى مكتب رئيس مباحث السجن. نائب مأمور قسم تانى هو بنفسه إلى قبض عليا. سألنى: انت تعرفنى واللا إيه؟
قلت له مفيش حاجة ممكن تخلينى انسى الشخص اللى بسببه عمرى بيضيع فى السجن
سكت شوية وبيفكر، فكملت كلامى: يوم 28 _12 _3013 عند السلم اللى عند جامعة الأزهر، كان فيه شاب معاه كاميرا ورايح يصور اشتباكات الجامعة فإنت وقفته وقلتله: انت جاى تصورنا احنا طيب يا ابن الـ.. صور ولاد الـ.. اللى بيحرقوا فى الجامعة، وبعد كده ضربته، فالعساكر والمخبرين حسوا ان حضرتك هتتعب فكملوا ضرب ــ
سكت، وضحكة اللامبالاة على وشه، فقلتله: انا بقى الشاب ده
عمل نفسه متفاجئ وقال: هو انت لسه من ساعتها فى السجن؟! أنا كنت بفحصك مش اكتر ومكنتش اعرف إنك هتطول كده!!
قلتله عدت سنة من يوميها بسبب انك بتفحصني
قاللى إن العيب مش عنده.
قلتله: مايهمنيش العيب عند مين، بس بما ان القدر جمعنى بيك فاحب اقول لك انى عمرى ما هاسامحك على عمرى اللى بيضيع، وإننا أكيد هنقف قدام ربنا ونتحاسب وابقى شوف هتقول ايه. بعد إذنك.. وسبت المكتب ومشيت
ندهلى رئيس المباحث وسألنى إنت قريب علاء عبدالفتاح؟
قلت: لأ.
قاللى طيب نصيحة حاول تختفى وماتظهرش فى أى حاجة فى السجن عشان كل حاجة بتوصل لأمن الدولة، وأمن الدولة عاملة عنك تقرير مش كويس. بيقولوا إنك بره السجن كنت بتنظم مظاهرات وجوا السجن عملت دعوة للإضراب عن الطعام. دى نصيحة أخوية يا احمد
(2)
مأمور قسم تانى مدينة نصر بنفسه بيحاول اقناعى بأنى افك الاضراب وانه مش هيفيدنى، والدليل محمد سلطان. حاول يوصللى انه متعاطف معايا وانه بيتمنى خروجى من السجن.
قلت لما حضرتك بتتمنى خروجى من السجن اعتقلتونى ليه ؟
قاللى ان اكيد فى حاجة غلط وانهم فى قسم تانى كانوا بيعاملونى كويس
قلت واضح ان حضرتك ماشفتش حفلات الضرب والإهانة الصبح والكهربا والتعذيب بالليل والتشريفة والحيطان اللى كانت متغرقة دم يوم 28 _12 2013..و البنات الـ 18 المتهمين بحرق كلية تجارة بنين مع ان أزهر بنين مبيدخلش فيه بنات
اتعصب فجأة وكأنى شتمته وبعد ما كان حبسى غلط وبعد ما كان متعاطف معايا قاللى إن أمثالى لازم يبقوا فى السجن وأنى مليون فى المية عملت حاجة عشان كده انا هنا
سبحان الله
سجن أبو زعبل
١٠ نوفمبر ٢٠١٤