منذ أكثر من ألفى عام ظهر أرسطو ليضع بصمته على أفرع كثيرة من فروع المعرفة التى كانت فى بداياتها آنذاك، من مساهمات أرسطو وضع أطر للتفكير المنطقى خاصة ما يطلق عليه الاستدلال (deduction)، وقد أطلق تلاميذ أرسطو على إسهاماته فى مجال التفكير المنطقى «أورجانون» (Organon). ما أهمية هذه المعلومة الآن؟ فى مقالنا اليوم نريد أن نعطى مثالاً حيا أن العلم سلسلة طويلة بدأت منذ فجر التاريخ وكل فكرة أو معلومة أو اكتشاف تستفيد مما قبلها وتشكل ما بعدها.
هناك بعض الأفكار تنتشر ويكون لها تأثير أكبر من أفكار أخرى حتى وإن كانت تلك الأفكار الأخرى أعمق أو أفيد، هناك عدة أسباب لذلك: فقد تكون الأفكار متقدمة جدا على عصرها فلا يفهمها الناس، بل وقد يحاربونها. إذا كنت متقدما بخطوة على من حولك سيصفونك بالعبقرية، أما إذا كنت متقدما بعشر خطوات سيصفونك بالجنون. قد تكون الفكرة ظهرت فى وسط غير مناسب أو وسط جمع من الناس لا يقدرها حق قدرها لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، وقد تكون الفكرة ضد مصالح البعض فيحاربها هذا البعض وتظل الفكرة حبيسة الأوراق أو الكتب أو تختفى حتى يعاد اكتشافها فى عصر مناسب لها. المهم أن البذرة التى وضعها أرسطو قُدر لها أن تثمر ويقوى تأثيرها بعد عدة قرون على يد العالم والفيلسوف الألمانى لايبنز.
• • •
استلهم العالم الرياضى والفيلسوف والمحامى جودفريد لايبنز (Gottfried Leibniz) أفكار التفكير المنطقى من «الأورجانون» وحاول إنشاء مجموعة من القواعد فى شكل رياضى تصف التفكير البشرى المنطقى، أى إنه حاول صياغة طريقة التفكير المنطقية فى شكل معادلات، من الممكن أنه كان يحاول استخدام ذلك فى دراسة القضايا التى تعرض عليه، لا نعرف، لم تنجح هذه المحاولات تماما لكنها كانت خطوة على الطريق. لايبنز فى طريقه ابتكر ما يعرف الآن بالتفاضل والتكامل وهو من أهم أفرع الرياضيات وقد توصل إليها فى نفس الوقت العالم الإنجليزى إسحاق نيوتن، وكانت هناك مساجلات بينهما حول من توصل إلى التفاضل والتكامل أولاً. هنا نقطة جانبية لكنها مهمة: حتى كبار العلماء فى التخصصات المختلفة يهمهم الشهرة والجوائز والمال.. إلخ، وتاريخ العلماء ملىء بأمثلة لا تعد ولا تحصى على ذلك. خطوة لايبنز المهمة حدثت فى القرن السابع عشر الميلادى. كان علينا الانتظار حوالى قرن ونصف حتى نصل إلى الخطوة الكبيرة التالية.
• • •
ظهر عالم الرياضيات والفيلسوف الإنجليزى جورج بوول فى القرن التاسع عشر ليكمل ما بدأه لايبنز. جورج بوول علم نفسه الرياضيات وأثناء عمره القصير (لم يعش أكثر من 49 عاما) قدم فرعا جديدا فى الرياضيات يقوم على التفكير المنطقى ويسمى بجبر بوول (Boolean Algebra). لاحظ أنه حتى هذا الوقت لم يكن أحد يفكر أو يتخيل وجود أجهزة كمبيوتر إلكترونية كالتى نملكها الآن. الجهود كلها كانت قائمة على الفلسفة والرياضيات ودراسة طرق التفكير. مع دخول القرن العشرين بدأت إرهاصات الثورة الصناعية الثالثة، تحدثنا عن الثورات الصناعية بالتفصيل فى مقالتين: الأولى بتاريخ 25 أبريل سنة 2020 بعنوان «الثورات الصناعية وتأثيرها على العالم»، والثانية بتاريخ 2 مايو 2020 بعنوان «الثورات الصناعية من منظور اجتماعى واقتصادى». مع ظهور وتقدم علوم الإلكترونيات وتقدم هندسة الإلكترونيات وعلوم الفيزياء التطبيقية أصبح الطريق ممهدا للخطوة التالية.
• • •
حدثان مهمان كان لهما أكبر الأثر فى الاستفادة من الأفكار التى تحدثنا عنها والدخول فى مرحلة التطبيق. الحدث الأول هو حصول ثلاثة على جائزة نوبل فى الفيزياء سنة 1956 لاختراعهم الترانزستور الذى توصلوا إليه سنة 1947 وهم: جون باردين (الذى حصل على جائزة نوبل الثانية فى الفيزياء سنة 1972) ووالتر براتين وويليام شوكلى. اكتشافهم اعتمد على اكتشافات مهمة فى الفيزياء متعلقة بعنصر السيليكون وما يطلق عليه بأشباه الموصلات بالإضافة إلى ميكانيكا الكم. يمكننا تشبيه الترانزستور بمفتاح الإضاءة فى الغرف، أى هو قطعة إلكترونية تسمح بمرور التيار الكهربى أو لا تسمح، أى نغلقها ونفتحها لنسمح بمرور التيار أو لا.
قلنا إن حدثين مهمين كان لهما الأثر الأكبر فى الاستفادة من أفكار القرون السابقة، الأول هو اختراع الترانزستور، أما الثانى فهو متعلق بمهندس كهرباء واتصالات أمريكى اسمه كلود شانون. هذا الرجل له عدة إسهامات كبيرة فى مجال الذكاء الاصطناعى وفى تكنولوجيا المعلومات الذى بدونه لم نكن لنستطيع إرسال معلومات عن طريق شبكات الاتصالات أى لم نكن لنمتلك الإنترنت والهواتف الذكية. إسهامه الذى يهمنا فى هذا المقال هو استخدام الترانزستور لبناء دوائر كهربائية تقوم بعمل العمليات المنطقية التى توصل اليها جورج بوول، وبدأ ظهور ما يعرف بأجهزة الكمبيوتر. كانت هناك محاولات قبل كلود شانون لبناء أجهزة كمبيوتر سواء ميكانيكية أو كهربائية باستخدام قطع إلكترونية أقل كفاءة من الترانزستور، بعض هذه المحاولات حالفها النجاح مثل تصميم جون فون نيومان وغيره، لكن كلود شانون طور الموضوع كثيرا.
ما تكلمنا عنه هو رحلة تصميم أجهزة الكمبيوتر وكيف أن الأفكار تسافر عبر القرون لتقع فى البيئة المناسبة لها لتثمر. طبعا أجهزة الكمبيوتر تحتاج برمجيات وهذه رحلة أخرى قد نتكلم عنها فى المستقبل لكننا نوهنا عن بعض نقاطها المضيئة فى مقال «ما لا ولن يفعله الكمبيوتر» بتاريخ 27 مايو 2023.
• • •
ماذا نستخلص من كل ذلك؟ هذه القصة والمستمرة معنا حتى الآن تعلمنا عدة أشياء:
• البحث العلمى له هدف لكن قد يظهر هدف آخر لم يكن فى ذهن الباحث حين بدأ مشروعه وهذا الهدف الآخر قد يكون هو الأكثر أهمية، فعلى الباحث أن يكون يقظا لما قد يستجد.
• لن أمل من مقولة أن العلوم تتداخل وتؤثر على بعضها البعض فيجب أن يكون الباحث ملما ببعض العلوم المتصلة بتخصصه الأساسى، الحد الأدنى من هذا الإلمام هو معرفة كيف يؤثر اكتشاف ما فى تخصص مختلف على تخصصه الأساسى.
• تاريخ العلوم والأفكار مهم وللأسف لا نعطيه حقه. راجع مقالين لكاتب هذه السطور: الأول بعنوان «لماذا نقرأ تاريخ العلوم» بتاريخ 4 يونيو 2016، والثانى بعنوان «الجمعية المصرية لتاريخ العلوم» بتاريخ 23 فبراير 2019.
من كان يتصور أن سهما انطلق منذ أكثر من ألفى عام يصيب هدفه فى القرن العشرين وعلى أبواب تغيير وجه القرن الواحد والعشرين؟