فى مثل هذه الأيام، وقبل ما يقرب من 28 سنة! وقع فى يدى كتاب صغير الحجم جدا، صدر فى سلسلة كتاب الهلال، للرائد النهضوى الكبير محمد حسين هيكل (1888 ــ 1956) اسمه «الأدب والحياة المصرية»، وكان يضم فصولا متناثرة عن شعر شوقى والبارودى وحافظ إبراهيم، فى الغالب كانت مقدمات نقدية مفصلة لطبعات من دواوينهم أو أعمالهم الكاملة على ما أذكر.
بدأ هيكل حياته الفكرية معجبا بالحضارة الغربية وأفكارها، بتأثير دراسته فى فرنسا ونزعته الوطنية إلى النهضة والتهذيب، وسرعان ما اتجه إلى التراث الفرعونى يتلمس مصادر القوة فيه، لكنه استقر على التراث الإسلامى، وكان أول من لفت النظر إلى إمكان توظيف إيجابياته.
شهرة هيكل الكبيرة تعود إلى كتابته رواية «زينب» التى صدرت عام 1913، وعدت أول رواية فنية فى الأدب المصرى الحديث؛ كما تعود شهرته إلى أدواره السياسية الكبيرة التى لعبها، فى وقته، وتولى وزارة المعارف المصرية لعدد من السنوات، وتولى رئاسة تحرير واحدة من ألمع الصحف المصرية، فى النصف الأول من القرن العشرين؛ جريدة (السياسة) وملحقها الثقافى (السياسة الأسبوعية) التى كانت من أهم نوافذ النشر للنخبة المصرية المثقفة آنذاك.
أعود إلى الكتاب الذى كان غلافه مزينا بصورة أحمد شوقى الشهيرة، جذبنى الكتاب لدرجة أننى قرأته كله فى ليلة واحدة أو اثنتين، وكان هو نافذتى الأولى على عالم أمير الشعراء أحمد شوقى الذى أحببته واقتربت منه بفضل ما قرأته لهيكل (وكان ذلك قبل أن يفرض علينا كتاب «شوقى شاعر العصر الحديث» للمرحوم شوقى ضيف الذى ظللت فترة طويلة أحاول التخلص من وطأة حضوره التأريخى الثقيل، وجفاف تناوله للقصائد والأبيات).
المهم أننى تعلقت بشعر شوقى، وبحثت عن ديوانه بل أعماله الكاملة التى كانت متاحة آنذاك فى أكثر من طبعة، وأحببت مسرحياته الشعرية جدا، ولحسن الحظ فقد كانت مجموعة كلها فى مجلد واحد أنيق يضم المسرحيات الست الشهيرة، صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقت رئاسة الناقد الكبير عز الدين إسماعيل لها، عليه رحمة الله.
لم أكن أجد أى صعوبة آنذاك فى قراءة مسرحيات شوقى (خاصة مجنون ليلى، وكليوباترا، وعنترة، وعلى بك الكبير) ولا حتى فى قراءة قصائده المطولة التى يحكى فيها تاريخ مصر كله.. وبسبب اللمحات الذكية لهيكل، وتحليله المتماسك الراقى لشعر شوقى، أحببت جدا قصيدة «كبار الحوادث فى وادى النيل»، وحفظت أبياتا منها أرددها وأستعين بها فى موضوعات التعبير.. وأتساءل إذا لم تكن أبيات من هذه القصيدة فى حافظة طلاب التعليم الأساسى، فماذا يمكن أن يكون فى حافظتهم، مما تسهل قراءته ويستحب معناه ويثير العاطفة والحماسة الوطنية فى نفوس هؤلاء الطلاب والطالبات، بدلا من النصوص الجافة العقيمة التى تدرس منذ عقود ولم تمسسها يد التغيير لا بخير ولا بشر، وكأنها محفوظة ومصونة بطلسم مختوم!
قرأت مسرحية عنترة أكثر من مرة، أحببت موسيقاه وكلاسيكيته الفخمة، كنت فى ثانوى على ما أتذكر. لكن الجميل أن ما كتبه هيكل عن شوقى ظل عالقا بذهنى ولم يفارقنى أبدا، وكان سببا مباشرا فى أن أقرأ لثالوث الشعر الذهبى فى أدبنا المعاصر، وألا أكتفى بكتاب هيكل الصغير الممتع، بل أبحث عن كتبه الأخرى فى النقد الأدبى أو الكتابة عن الشخصيات والكتب، حتى عثرت له على كتابين آخرين، ربما لم يحوزا الشهرة الكبيرة التى حازتها أعماله الشهيرة فى الإسلاميات «حياة محمد»، «الصديق أبو بكر»، «الفاروق عمر».. إلخ. هذان الكتابان هما «فى أوقات الفراغ»، و«ثورة الأدب»؛ واكتشفت حينها أن هيكل ليس فقط مؤرخا وكاتبا مجيدا بل أيضا ناقد من طراز رفيع وله ذائقة أدبية معتبرة، فضلا عن رصانة أسلوبه «الفخيم»، فيه العمق والتحليل والمعلومة والنظرة الكلية؛ والقدرة على طرح القضايا النظرية بحسم وتحديد رجل القانون البارع فى قراءة النصوص وفهمها وتفسيرها، وصياغة وإنشاء نصوص موازية تحمل خلاصة فهمه، ورؤيته، ونظرته للعالم.
لا أنسى أننى بسبب هذا الكتاب الصغير الأنيق قررت أن أقرأ شوقى، والبارودى وحافظ إبراهيم، وأن أقرأ هيكل نفسه الذى كانت قراءته فتحا ونقلة كبيرة جدا فى الوعى والأسلوب والاتساع المعرفى وتنوع الموضوعات وغزارة المعلومات وحسن عرضها.