أموال مشبوهة من سويسرا إلى بنما - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أموال مشبوهة من سويسرا إلى بنما

نشر فى : الخميس 14 أبريل 2016 - 8:15 ص | آخر تحديث : الخميس 14 أبريل 2016 - 8:15 ص
فى فبراير عام 2015 اهتز العالم لتسريبات خطيرة بطلها أحد العاملين فى بنك HSBC بسويسرا واسمه هيرفى فالشيانى (Hervé Falciani) الذى استولى منذ عام 2008 من خلال عمله كخبير تقنى بالبنك على بيانات خطيرة لحسابات عالية السرية أشارت بأصابع الاتهام إلى أسماء كبيرة فى مجالى السياسة والمال حول العالم، بلغ إجمالى الأموال المشار إليها فى تسريبات سويسرا أكثر من مائة مليار دولار لصالح ما يزيد على مائة ألف عميل بأكثر من مائتى جنسية كان نصيب مصر منها نحو 3.5 مليار دولار.

التسريبات فى حينها ألقت بظلال من الريبة على كفاءة عمل اللجان الحكومية التى شكلت بعد ثورة يناير من أجل التحرى عن أموال أقطاب النظام السابق على الثورة، حتى الأموال التى تمكنت اللجان الحكومية من تعقبها وتجميدها فى بنوك سويسرا لم تتمكن مصر من استردادها لأنه لم يصدر حكم قضائى نهائى وبات بخصوص عدم نزاهة مصادر تلك الأموال.

لكن الريبة وحدها لم تكن كافية للمطالبة بحق مصر فيما تم الكشف عنه من حسابات البنك صاحب السوابق فى عمليات غسيل الأموال والذى قام فى عام 2012 بدفع غرامة مالية ضخمة على سبيل التسوية المالية مع وزارة العدل الأمريكية مقدارها 1.9 مليار دولار، إذ من الصعوبة بمكان إثبات عملية غسيل الأموال أو إخفائها عن أعين الضرائب فى «حسابات سوداء»، وظل الرأى العام مشتعلا فى مصر والدول التى تورط بعض مواطنيها فى تلك التسريبات حتى مرت العاصفة وتحقق السبق الصحفى وأسفرت «المكلمات» عن لا شىء!.

***

اليوم يضرب العالم تسونامى جديد من التسريبات، هذه المرة من مؤسسة للخدمات القانونية والمؤسسية فى بنما اسمها Mossack Fonseca تثبت أنها تورطت فى عمليات غسيل أموال وإخفائها فى ملاذات ضريبية خلال أربعة عقود منصرمة. التسريبات التى خرجت من صحيفة ألمانية إلى «الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين» اشتملت على ما يزيد على 11 مليون وثيقة ومستند وتضمنت أدلة وخيوطا تتصل بحكام سابقين وحاليين بلغ عددهم 72 شخصية كما تضمنت أسماء 140 من الساسة البارزين وأسرهم ومعارفهم فى أكثر من 50 دولة يتصلون بشركات أوفشور فى نحو 21 ملاذا ضريبيا حول العالم.. اللافت هذه المرة أن المؤسسة مصدر التسريب هى فى ذاتها صاحبة سجل مشبوه فى الخدمات المالية السرية (وإن كانت قد أصدرت بيانا تنفى فيه ذلك) وبالتالى فمجرد ظهور أسماء لمتعاملين مع تلك المؤسسة يوصم أولئك المتعاملين بتهم خطيرة أدناها التهرب الضريبى وتعمد إخفاء الأموال، إذن لم تعد القضية حسابات سرية بل تعاملات مشبوهة ضاع خلالها حق الدولة فى أقل تقدير، وغسلت بواسطتها أموال صفقات غير مشروعة فى حالات أخرى.

من اللحظة الأولى لنشر التحقيق الصحفى الكبير، وبذات الآلية المنظمة التى اصطلح فريق العمل الاستقصائى المحترف على اتباعها من تنسيق المحتوى وتوقيت النشر، بدأت جهات التحقيق القضائى فى عدد من الدول عملا موسعا للتحرى عن تلك الوثائق وملاحقة المتورطين فيها، فى أيسلندا تحركت جموع ساخطة من المواطنين فى اتجاه البرلمان وطالبوا الحكومة بالاستقالة، نظرا لأن التسريبات تشير إلى رئيس الحكومة الحالى. القضية هذه المرة أكبر من أن تمر بمرور زخم السبق الصحفى، بل هى من الخطورة بمكان أن تسقط حكومات، وتغير موازين القوى الاقتصادية داخل بعض البلدان والأقاليم.

اتساع دائرة الاشتباه لتشمل عناصر وشخصيات مهمة فى النظام الاقتصادى العالمى يمنح أعداء النظام الرأسمالى والداعين إلى إسقاطه أو فى القليل إصلاحه بصورة ثورية فرصة ذهبية لترويج أفكارهم، تلك الأفكار التى وجدت فى كتاب «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» لصاحبه الاقتصادى الفرنسى الشاب «توماس بيكيتى» أساسا نظريا قويا مدعوما بالبيانات.

وفقا لـ«بيكيتى» فإن تراكم الثروة وتركزها فى عدد محدود من الوحدات الاقتصادية يتم بوتيرة أسرع كثيرا من نمو الناتج الاقتصادى ما لم تعترضه الفواجع والحروب!، لكن تلك التسريبات ترشدنا إلى أن هذا التراكم للثروات لا يحدث فقط بصورة تلقائية وفقا لآلية مشوهة فى عمل النظام الرأسمالى، بل هو أحيانا عمل شيطانى يعتمد أساليب خسيسة لإخفاء الثروات بعيدا عن أعين الدولة وخارج حدودها، فإذا كانت هذه الدولة فقيرة الموارد كان الجرم أكبر، إذ تحرمها تلك الممارسات من أبسط مواردها الضريبية، ومن إعادة تدويرها فى الاقتصاد المرهق والمستنزف أصلا بفعل هؤلاء الشياطين. مصر فقدت منذ ثورة يناير 2011 نحو 20 مليار دولار من احتياطى النقد الأجنبى، وما زالت تنزف دولارات فى ظل تراجع عائدات السياحة والتصدير، بينما يملك عدد من رموزها السياسية والاقتصادية مليارات الدولارات فى بنوك وصناديق خارج البلاد وعبر مؤسسات مشبوهة لإخفاء الأموال!.

***

سؤال آخر يطرح نفسه بقوة فى سياق تلك التسريبات، من أين أتت مليارات الساسة وأبنائهم؟ «فهلا جلست فى بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا» قالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما استعمل على جمع صدقات بنى سليم رجلا يدعى ابن اللتبية، فلما جاء وحاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية.

ما كان ابن رئيس أو وزير ليجمع المليارات إلا على سبيل الرشاوى التى يراد بها تمرير الصفقات المشبوهة وأكل أموال الناس بالباطل. لم يعد المسئول يتلقى الهدايا أو الرشاوى فى حقائب على طريقة المسلسلات العربى، بل هى شراكة فى مشروعات وصناديق استثمار تجمع المليارات باسم المسئول وأبنائه وأقاربه، تحصل من خلالها أموال الراشى على حصانة ضريبية وأخرى قضائية ضد نزع ملكيات الأراضى المنهوبة وتلك التى خصصت بغير حق، بل وضد أية ملاحقة قضائية محتملة.

مجرد ظهور تلك الأرقام فى حسابات هؤلاء كفيل بمحاكمتهم ومصادرة جل اموالهم، فما بالك بأدلة جديدة تفيد بأن هذه الثلة من النافذين تمارس أنشطة مشبوهة بإخفاء الأموال واستثمارها عبر القارات؟!

إن ثروات مصر تستنزف ومصير البلاد مرهون بوضع اقتصادى مرتبك ومتأزم، ولا طائل من مطالبة الفقراء ومتوسطى الحال بالتقشف أو التبرع بأقواتهم بينما يرفل آحاد الناس فى مليارات الشعب، ويا ليتهم استثمروها فى بلادهم أو ادوا ما عليها من ضرائب، بل هى فى حسابات وصناديق بسويسرا وقبرص وجزر الكاريبى وغيرها من ملاذات، وقد آن أوان وقف هذا النزيف.

***

فى الختام، أطالب الحكومة بتدشين برنامج حماية المال العام، وأن يخضع هذا البرنامج لرقابة البرلمان، مع تحقيق تواصل دائم مع المواطنين عبر وسائل الاتصال التقليدية والحديثة، وعلى أن ينشأ هذا البرنامج بعضوية الجهات الرقابية والحكومية ومؤسسات المجتمع المدنى ذات المهام الرقابية الشعبية، فضلا عن خبراء المال والاقتصاد المستقلين، وأن يضع القواعد والأسس اللازمة لحماية المال العام، وآليات وبرامج العمل لاستعادة الأموال المنهوبة من الشعب وفقا لجداول زمنية محددة سلفا.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات