من المؤكد أن الإنسان المصرى مؤهل أكثر من نظرائه فى الدول المتقدمة للتعايش والتأقلم مع الظروف الاستثنائية. الفرد فى مصر يمكنه أن يدير أزمة توقف وشلل تام فى حركة المرور، حتى وإن غاب عنها رجال الشرطة، وجميع وسائل رقابة وتنظيم الحركة إلكترونيا. يخرج أحد الركاب أو حتى المارة متطوعا لفك الاشتباكات، وتهدئة الأوضاع، وتسيير حركة المرور، والغريب أن الناس ينصاعون إلى تعليماته بمرونة شديدة، وما هى إلا دقائق حتى تنفض الأزمة وتنساب الحركة بسلام! وحده الفرد أيضا وبدون أى جهود تنظيمية من مؤسسات الدولة أمكنه تشكيل مجموعات من اللجان الشعبية، لحماية الشوارع والأحياء من المخربين فى وقت الفراغ الأمنى الذى خلفته ثورة يناير 2011، بينما نرى فى أوقات الأزمات كيف تتحول الكثير من الشعوب المتقدمة إلى عصابات للسلب والنهب، وأحداث الهجوم على الأسواق والمستشفيات فى الولايات المتحدة مقترنة بإعصار كاترينا فى نيو أورليانز، وباجتياح فيروس كورونا فى عدد من الولايات، هى خير شاهد على هذا النمط السلوكى المرعب الذى عافانا الله منه.
لا يحملنا ما تقدم على الزعم بالتميز العرقى، واستحضار الشوفينية الزائفة، والانتقاص من أقدار الشعوب الأخرى. التفسير البسيط لهذا التفرد مناطه أن الشعوب التى اعتادت العمل فى نظام محكم، قد أصبحت أشبه بالتروس فى ماكينات منضبطة، ترتبك بشدة إذا ما تعرض نظامها لهزة عنيفة. تماما كما يرتبك النحل إذا تعرضت خلاياه لهجوم مباغت، وكما تضطرب حركة الكواكب إذا ما أصابتها النيازك أو اعترضتها الشهب. أما الشعوب التى تفتقر إلى النظام فى حياتها العادية فقد وطنت نفسها على النجاة فى غيبته، تكونت لديها مناعة ضد أمراض الفوضى. يقول أحد الأطباء النفسيين فى رده على سائلة يخيفها أنها لا تقلق من تبعات انتشار وباء كورونا فى العالم، أن معتادى الفوضى يشعرون بالألفة مع هذه الأجواء المضطربة، وكأنهم فى بيوتهم أو مساحتهم الخاصة.
•••
كثير من المهام والوظائف التى أوكلتها الشعوب إلى حكوماتها وإداراتها المحلية وتنظيماتها الحزبية والنقابية منذ نشأة الدولة الحديثة ذات السيادة، يجد الإنسان الإفريقى نفسه مضطرا إلى أن ينجز بعضها معتمدا على ذاته، أو على أسرته الصغيرة أو قبيلته فى أحسن الأحوال. مهام الحماية وتمهيد وتنظيم الطرق، ورفع المخلفات، وتوفير مرافق أساسية كمياه الشرب والكهرباء والغاز، تتفاوت قدرة الدول الأقل تقدما على تزويد المواطنين بها. كثير من القرى المحرومة من الخدمات الأساسية فى قارتنا السمراء، يعانى سكانها من العيش على هامش الدولة، الأمر الذى تطورت معه قدرات هؤلاء السكان للتصدى لتحديات تُعجز الحكومات اليوم. هل سألت نفسك كيف يعيش كثير من البشر بغير مصدر آمن للمياه النظيفة؟ كيف يتحركون على الطرق دون خطوط للسكك الحديدية أو وسائل نقل جماعية آمنة؟ كيف يتعلمون فى مدارس نائية عارية من الإمكانيات؟ إنهم يتكيفون مع أوضاع لا يمكنك أنت عزيزى القارئ التكيف معها، وكذلك لا يسهل على المواطن الإسكندنافى أو اليابانى الفرد أن ينظم حركة المرور، أو يحاول تنقية مياه النهر ليشربها، أو يعالج مصابا فى قارعة الطريق، أو يتعايش مع انقطاع الكهرباء أسابيع أو حتى ساعات. إن ارتباك المنظومة المعتادة يشل حركة المجتمعات المتحضرة بصورة كبيرة. الخوف من اتصال المواطن الأمريكى بخدمة 911 دون رد أو دون استجابة، هو أحد مصادر الرعب التى صورها فيلم أمريكى شهير، لكن هذا الهاجس لا تجد له نظيرا فى دول أخرى أقل اهتماما برفاهية الفرد وأمنه الخاص، لا تتوقع شيئا على الإطلاق من الاتصال برقم الشرطة.
قد يفهم البعض هذا التحليل فى سياق نظريات مواقع التواصل الاجتماعى، والتى لم تثبت بشكل علمى، حول صمود مناعة الشعوب الفقيرة أمام «كورونا» بشكل أفضل كثيرا من الشعوب الغنية، معللين هذا بقسوة ظروف المعيشة، وتلوث البيئة والتعرض المستمر لمخاطر الإصابة بالأمراض والميكروبات والفيروسات، وهو ما ساهم فى تعزيز مناعة الفقراء وترك المرفهين عرايا بغير غطاء، عندما وهنت مناعتهم الطبيعية فى بيئة شديدة النظافة، وتحت رعاية طبية شاملة لم تترك لجيش المناعة الربانى فرصة للتدريب على معارك فيروسية مستحدثة، يصفها العلم بأنها فيروسات ضعيفة لكنها بعد أقوى من مناعة الملايين، ولم تهزمها التطعيمات، لأن أحدا لم يطور علاجا أو تطعيما لها من خارج جسم الإنسان بعد.
•••
وإذا كان تناول الراهب «جريجورى راسبوتين» الذى تنبأ بانهيار الإمبراطورية الروسية لجرعات منتظمة غير مميتة من السم قد أعطاه مناعة ضد التسمم، وجعل محاولة اغتياله شيئا غاية فى الصعوبة. فإن أحدا لا يمكنه الزعم اليوم بأنه يتناول جرعات مخففة من الفيروسات كل صباح! أو أنه يتناول شربة من «كورونا» على الريق فتكونت لديه أجسام مضادة للفيروس اللعين، فقط هناك ملايين من البشر لا يملكون ثمن الدواء، ولا يملكون رفاهية عيادة الطبيب كلما أصابتهم نزلات البرد، ولا حتى رفاهية المكوث فى المنزل للراحة عند اشتداد المرض، ذلك أنهم لا يدخرون فى بيوتهم ما يبقيهم أحياء إذا ما توقفوا عن العمل ليوم واحد فقط! هؤلاء دفعوا فاتورة باهظة الثمن لتكوين ما يعرف بمناعة القطيع، مات منهم مئات الآلاف حتى اكتسبوا عن جدارة الحق فى البقاء. فى المشهد الأخير لفيلم اسمه «حرب العوالم» يضع الممثل الأمريكى الرائع «مورجان فريمان» بصوته الساحر خاتم النهاية الذى يفسر به موت الكائنات الفضائية التى لا تقهر بمجرد أن تنفست هواء الكرة الأرضية، لم يقهرها البشر بصواريخهم ولا بجيوشهم التى أنفقوا عليها التريليونات وإنما قتلتهم أصغر المخلوقات على الأرض، الفيروسات التى اكتسب البشر مناعة ضدها مستحقين للبقاء عبر ملايين السنين من التعايش معها، وملايين الموتى الذين سقطوا ضحيتها.
نفس النوعية من الأفلام التى تنبأت بنهايات للعالم وللتكنولوجيا التى نعرفها ولنمط الحياة السائد..إلى غير ذلك من نهايات قاتمة، منها ما تنبأ بأن الدول الأكثر فقرا سوف تكون فى مأمن من هجمات الطبيعة، وسوف تحتضن البشرية فى دورتها القادمة، بعد أن تنتهى الدورة الحالية نهاية مأساوية. ولأن كل متوقع آت، فلا شك أن توقعات صانعى أفلام هوليود قد بدأت تتحقق، بل إننا نرى تظاهرات فى المكسيك ضد عبور الأمريكان لحدودهم خشية من نشرهم للعدوى فى أراضيهم!
•••
حتى كتابة هذه السطور لا تزال البشرية التى ظنت أنها قادرة على الأرض وأنها قد طورت من أسباب المعرفة والعلوم ما تكافح به مخلوقات ذكية من عوالم أخرى، ما تزال فى حجر صحى شبه كامل، وشلل اقتصادى شبه تام، عاجزة أمام أحد أصغر مخلوقات الله غير المرئية. ولا يزال الطرح الأكثر شيوعا للخروج من هذا المحبس أن يُترك الناس لمناعة القطيع التى تعرض الأكبر سنا والأفقر لمخاطر أعلى نسبيا من سائر الناس، وتقدمهم قربانا لبقاء نمط المعيشة الذى اعتاده الصفوة وأصحاب الرأى، أو أن ننتظر ظهور تطعيم ناجح ومجرب وهو أمر يستغرق بين العام والعامين! ولكن هناك طرح آخر لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم، وهو الذى ستكتب به نهاية أقل دموية لتلك الجائحة إن شاء الرحمن.