فى تطور درامى صادم، يتزامن مع احتدام الحرب التجارية بين واشنطن وبكين؛ أعلن الرئيس الأوكرانى، زيلينسكى، قبل بضعة أيام، أسر جيش بلاده مواطنَين صينيين يقاتلان ضمن صفوف القوات الروسية فى منطقة دونيتسك، شرقى بلاده. وبعدما أكد حيازته الوثائق الشخصية الخاصة، التى تؤكد هوية المعتقلَين، لفت إلى امتلاكه معلومات يقينية تفيد بوجود مئات آخرين من المواطنين الصينيين يقاتلون إلى جانب القوات الروسية الغازية. ومن ثم، استنتج زيلينسكى نجاح موسكو فى استدراج بكين لتوريطها فى حربها ضد كييف. غير مستبعد علم بكين بتجنيد موسكو مئات المواطنين الصينيين للقتال فى أوكرانيا. وبينما أكدت الخارجية الأمريكية، علم واشنطن بالتقارير، التى اعتبرتها «مزعجة»، ارتأت أن الصين أضحت «عامل تمكين محوريا» لروسيا فى حربها ضد أوكرانيا.
•••
فى المقابل، ندد الكرملين بالمزاعم الأوكرانية، مشيرا إلى أن موسكو لا تستدرج بكين إلى الأزمة الأوكرانية، التى تحافظ على «موقف متوازن» حيالها. أما بكين فرفضت الاتهامات الأوكرانية والأمريكية؛ التى ارتأتها محض افتراء، فى ظل حرص الدولة الصينية على منع مواطنيها من الانخراط فى صراعات خارجية. فمنذ اندلاع المواجهات المسلحة بين موسكو وكييف، للمرة الأولى، عام 2014، أبت الصين إلا تأكيد حيادها التام، مع الحرص على الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع طرفيها. ورغم عدم إدانتها الغزو الروسى لأوكرانيا، ورفضها الاعتراف بضم موسكو أراضى وأقاليم فى شرق أوكرانيا؛ لم تتورع بكين عن تعزيز علاقاتها مع موسكو، على مختلف الصعد، خصوصا منذ بدء عمليتها العسكرية الخاصة، والمتواصلة فى أوكرانيا منذ العام 2022.
فطاقويا، لم تتردد بكين فى مساعدة موسكو على التصدى لتداعيات العقوبات الغربية الصارمة عليها؛ ومؤازرتها فى إيجاد أسواق بديلة أمام الغاز الروسى، بعدما أوصدت الأسواق الأوروبية فى وجهه، بجريرة الحرب. وبناء عليه، فاقمت بكين وارداتها من الغاز والنفط الروسيين، ولو بأسعار تفضيلية مخفضة. ومن جانبها، هرعت روسيا إلى تهيئة البنى التحتية الطاقوية الكفيلة بتكثيف ومضاعفة صادراتها الغازية إلى الصين. حيث أشرفت على إتمام خط أنابيب «قوة سيبيريا-1»، بطاقة تصميمية قصوى تبلغ 38 مليار متر مكعب سنويا؛ كما انبرت فى تدشين خط «باور سيبيريا-2»، الذى تتطلع إلى أن يضيف عشرة مليارات متر مكعب سنويا، من الغاز الروسى إلى الصين، بحلول العام 2027. وتعكس هكذا تحركات، مدى جدية الاستراتيجية الروسية الرامية إلى استبدال بكين بعملاء موسكو الأوروبيين، الذين رغبوا عن غازها، عقب غزوها أوكرانيا.
تكنولوجيا، تؤكد مصادر أمريكية لجوء روسيا للاعتماد، بشكل متزايد، على الخبرات والإمكانات التقنية لكيانات أجنبية، كمثل الصين، كوريا الشمالية وإيران. وارتكانها إلى استيراد تقنيات متقدمة، لتغذية برامج صناعتها الدفاعية، بما يخولها مواصلة حملتها العسكرية ضد أوكرانيا. وفى هذا المضمار، برزت الصين بوصفها وجهة مفضلة وظهيرا حاسما. حيث تتبارى التقارير الاستخباراتية الغربية فى التأكيد على تزويدها روسيا بثلث احتياجاتها الاقتصادية، 70% من المعدات اللازمة لتطوير آلتها الحربية، 90% من التكنولوجيا الدقيقة والرقائق الإلكترونية، المستخدمة فى إنتاج الأقمار الاصطناعية، المنظومات التسليحية المتطورة وغير المأهولة. وبينما تصر الحكومة الصينية على نفى تلك التقارير، فإنها لم تتبرأ من إقدام بعض شركاتها على تزويد موسكو بالمواد ذات الاستخدام المزدوج، بما فيها المكونات والتقنيات، التى تنعش قطاع الصناعات العسكرية الروسى، رغم العقوبات الغربية القاسية.
سياسيا، عمدت الصين إلى المسارعة فى بلورة المبادرات الدبلوماسية لإنهاء حرب أوكرانيا. حيث قدمت بالتعاون مع البرازيل، فى مايو 2023، مقاربة لتسوية الأزمة سلميا. وأبدى وزير الخارجية الصينى، استعداد بلاده لتأدية «دور بنّاء» لإنهاء المأساة التى ناهزت سنوات ثلاث، مع مراعاة حرص الأطراف المعنية، على أولوياتها الأمنية، وتطلعها للاحتفاظ بسيادتها ومكانتها. ورغم تقدير الصين تمسك أوكرانيا بمبدأ «الصين الواحدة»؛ لم تتردد فى مواصلة الدعم لموسكو، فيما تعتبره دفاعا مشروعا عن مصالحها.
عسكريا، تفيد تقارير استخباراتية أوروبية وأمريكية، ببلوغ التقارب التقنى بين موسكو وبكين مستوى التصنيع العسكرى المشترك؛ فى سابقة لم يعرفها تاريخ العلاقات بين العملاقين النوويين. حيث أنشأت روسيا شركة داخل الصين لإنتاج وتطوير مسيرات هجومية بعيدة المدى، من طراز «غاربيا- 3 (جى3)»، يمكنها التحليق لأكثر من 2000 كيلومتر، بحمولة 50 كيلو جراما؛ توطئة لاستخدامها فى حرب أوكرانيا. وردا منها على ذلك التطور الجلل، اتخذت وزارة الخزانة الأمريكية إجراءً تصعيديا غير مسبوق. إذ فرضت عقوبات على شركات صينية متهمة بمشاركة نظيراتها الروسية فى تصنيع أسلحة متطورة تستخدم فى تلك الحرب، أو تزويدها بمكونات تساعدها فى ذلك.
خلافا للدعم الأمريكى، السخى وغير المشروط، لبريطانيا، إبان الحرب العالمية الثانية، انطلاقا من وشائج حضارية صلبة، ودوافع استراتيجية ملحة؛ يستند الدعم الصينى لروسيا فى حرب أوكرانيا، على حسابات براجماتية بحتة. حيث تجنى بكين مكاسب اقتصادية وتكنولوجية جمة من وراء مؤازرتها، الحذرة وغير المباشرة، للعملية العسكرية الروسية المعقدة. فعلى غير رغبة واشنطن وحلفائها الغربيين، بددت الحرب الروسية الأوكرانية عددا من العراقيل، التى ظلت تكبل التقارب الاستراتيجى الخجول بين موسكو وبكين. فلقد تسارعت وتيرة التعاون العسكرى، الاقتصادى والتكنولوجى بين الطرفين، على نحو مقلق. ويبدو أن روسيا تجاوزت مخاوفها وهواجسها حيال الصين؛ وآثرت التقارب معها، اضطراريا، أملا فى تقليص حدة التداعيات المؤلمة للعقوبات الغربية، التى تثقل كاهل الروس منذ فبراير 2022. وعلى وقع تحول موسكو عن الغرب، وتوجيه مواردها الاقتصادية وثقلها الجيوستراتيجى باتجاه بكين، تسنى للأخيرة حصد مغانم اقتصادية ضخمة. حيث تيسر لها الاستفادة من موارد الطاقة الروسية، بمزايا تفضيلية، تضمن لها استدامة الحصول عليها، بكميات هائلة وأسعار تنافسية. أما على المستوى الاستراتيجى؛ فقد هيأت الأزمة الأوكرانية فرصا استثنائية للصين بغية تعزيز نفوذها فى بؤر التنافس الاستراتيجى التاريخى مع روسيا منذ زمن الاتحاد السوفيتى. حيث غضت موسكو الطرف عن التموضع الصينى، جيوسياسيا، فى بقاع طالما ظلت، تاريخيا، تشكل حديقة خلفية للروس؛ بعدما كان مجرد الاقتراب الصينى منها، فيما مضى، كفيلا بوضع الجارتين النوويتين اللتين تجمعهما حدود مشتركة تناهز أربعة آلاف كيلومتر، على حافة المواجهة. كما مكنت بكين من الحصول على تقنيات عسكرية روسية فائقة التطور. وساعدتها على ترحيل خلافاتها مع الغرب بشأن تايوان، بمنأى عن المجال الحيوى الصينى. ومثلما أثبتت الأزمة الأوكرانية فشل العقوبات الغربية فى كسر إرادة روسيا، تتطلع بكين إلى تكرار ذات السيناريو معها، حال تعرضها لعقوبات مماثلة، إذا ما اضطرت إلى استعادة تايوان بالقوة. لاسيما وأن ارتدادات هكذا عقوبات، ستكون أشد وطأة على الاقتصاد العالمى. بالنظر إلى ضخامة الاقتصاد الصينى؛ وتشابكاته العنكبوتية العميقة، خصوصا مع واشنطن وحلفائها الأوروبيين.
•••
إذا ما تأكدت التقارير المتعلقة بقتال مواطنين صينيين مع الجيش الروسى فى أوكرانيا، وتعاون بكين وموسكو فى مجال الصناعات الدفاعية المتطورة؛ تكون الأزمة الأوكرانية قد بلغت بالعلاقات الروسية الصينية مبلغا مفزعا لواشنطن وحلفائها الغربيين. فعلاوة على ما تطويه من إشارات لجهة جنوح السياسة الخارجية الصينية للعسكرة؛ تؤجج هذه التطورات الخطيرة التى تواكب ولوج تلك العلاقات مرحلة «الشراكة الاستراتيجية بلا حدود»، الهواجس الأمريكية من التحالف الاستراتيجى المحتمل بين بكين وموسكو. ذلكم الذى طالما تخوفت منه واشنطن، ولم تدخر وسعا لالتماس السبل الكفيلة بإعاقته.
كذلك، يتعاظم الهلع الأمريكى من مآلات الانفتاح الصينى المتنامى على أوروبا. فلقد تزامنت أصداء تحول موقف بكين إزاء الأزمة الأوكرانية، مع تعهد الرئيس الصينى ورئيس الوزراء الإسبانى، فى بكين، الجمعة الماضية، ضرورة تحمل الصين والاتحاد الأوروبى مسئوليتهما الدولية المشتركة. بما يضمن حماية العولمة الاقتصادية، بيئة الأعمال العالمية، العدالة والإنصاف الدوليين، ومناهضة سياسة الإكراه الأحادى، التى لا تتورع واشنطن عن ممارستها. فضلا عن عدم السماح للتوترات التجارية المتجددة بينهما، بإجهاض مساعى تقوية أواصر تعاونهما البناء، على مختلف الأصعدة.