لو سألت شعوب الأمة العربية، ومن ضمنها بالطبع شعوب دول مجلس التعاون الخليجى، عما كانت تودُ أن يطرح فى اللقاء الأمريكى ــ الخليجى فى كامب ديفيد لأدرك الذاهبون إلى ذلك اللقاء مقدار التغيير الجذرى المطلوب لتعديل جدول أعمال ذلك الاجتماع.
فالشعوب العربية تريد تشخيص وعلاج أمراض العلاقة العربية – الأمريكية المزمنة الخطرة وليس الاكتفاء بالإشارة إلى أعراض تلك الأمراض فى هذه الساحة أو تلك ومحاولة تخفيفها بالمهدئات والمسكنات المؤقتة.
والسبب هو أن أمريكا كانت ومازالت تصرُ على أن تكون فى علاقتها مع العرب سرطانا خبيثا ينهش فى أعضاء الجسم العربى الحيوية، سنة بعد سنة، فى ساحة بعد ساحة، بأشكال ظاهرة وحفية، بحروب مباشرة وبحروب بالوكالة، وذلك من أجل إضعاف ذلك الجسم وتدمير كل أنظمة مناعته وكل إمكانيات تعافيه ونهوضه.
يشهد على تلك الهجمة السرطانية الأمركية تاريخ أسود: من الدعم الأعمى المتحيز اللاإنسانى، المالى والعسكرى والسياسى والإعلامى، للعدو الصهيونى فى فلسطين المحتلة وانتزاع قضية الشعب الفلسطينى من أيادى مؤسسات المجتمع الدولى لتصبح لقمة سائغة فى يد اللوبى الصهيونى الأمريكى، إلى الوقوف المتآمر ضد أى فكر أو عمل سياسى قد يؤدى إلى توحيد الأمة العربية المجزأة، إلى التدخل فى شئون مجتمعات العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها، إلى أشكال لا حصر لها ولا عد من الأدوار التى لعبتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وأخواتها فى إثارة الفتن والصراعات الطائفية والقبلية والأيديولوجية والسياسية فى كل أرض العرب، إلى المواقف الحالية الغامضة المترددة المتقلبة المشبوهة الميكافيلية من الظاهرة الداعشية ومشاريعها، فى كل الأرض العربية ولكن العراق وسوريا على الأخص.
هل سيطرح الذاهبون هذا التاريخ الأسود ويطالبون بصراحة تامة إيقاف مسلسلاته المأساوية الانتهازية أم سيضيعون فى تفاصيل الحلف العسكرى الخليجى – الأمريكى القادم الذى تعرف الشعوب جيدا، بخبرة تاريخية طويلة، بأنه لن يكون أكثر من حلف الدجاج المغلوبة على أمرها مع الثعلب الماكر الكذَاب؟ ألم يلعب هذا الثعلب ذاته مع أشكال من الدجاج الآخرين نفس اللعبة، فيسقط أنظمتها الشرعية التى لا تعجبه، ثم يرميها بقايا حطام لتقضى السنين الطوال فى استرداد عافيتها؟
***
هل الهدف من المطالبة يطرح أسباب وعلاج العلاقات العربية – الأمريكية المريضة هو صرف النظر عن السبب الرئيسى لعقد اجتماع كامب ديفيد؟ بالطبع لا. فنظام الحكم الإيرانى ارتكب ويرتكب الكثير من الأخطاء والخطايا فى بعض الساحات العربية، كما أن بعض الأنظمة العربية جعلت من تلك الممارسات الإيرانية الخاطئة غطاء لجر العرب إلى صراع سنى – شيعى طائفى مجنون سيحرق الأخضر واليابس فى بلاد العرب وكل بلاد الإسلام.
لكن هل أن مكان مواجهة المشكلات والصراعات العربية – الإيرانية، التى تقترب شيئا فشيا من حالة المأساة التاريخية لكلتا الأمتين، هل هذا المكان هو كامب ديفيد وتحت الجناح الأمريكى الذى أهان وأنهك الأمتين فى مناسبات كثيرة؟
وإذن ما هو دور منظمة الدول الإسلامية إن لم يكن إطفاء حرائق الجنون بين بعض أعضائها وتجييش كل أعضائها الآخرين لحل المشكلات والصراعات من خلال مبادئ الدين المشترك والجيرة الجغرافيىة والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة؟ أليس المفروض أن تجرى محاولة إنهاء هذه الصراعات العبثية فى إحدى عواصم بلاد العرب أو بلاد المسلمين وأن يكون الوسطاء من الغيورين على مستقبل العرب والمسلمين؟
ثم لنفترض حدوث الجانب الأسوأ، وهو عدم قدرة العرب والإيرانيين على حل مشاكلهم بالحوار وبالحسنى وبالتالى لابد من المواجهة المانعة لانتصار جهة ما على جهة أخرى، فهل ستكون المواجهة الأجدى من خلال شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية وقبول المزيد من التواجد العسكرى الأمريكى، أم أن الأجدى هو بناء ندية عربية رادعة بشرية واقتصادية وسياسية وأمنية، تبدأ على المستوى الخليجى وتصعد إلى المستوى القومى؟ نديُة تمنع استباحة مجتمعات العرب من قبل أية دولة إقليمية، سواء أكان الكيان الصهيونى أو تركيا أو إيران، وكذلك من قبل أية دولة لها مطامع استعمارية فى ثروات العرب وأرضهم.
لقد جرجرت أمريكا العرب منذ نحو ربع قرن للجلوس مع العدو الصهيونى فى مدريد، عاصمة اسبانيا، ووعدتهم بأنها ستحل قضية فلسطين حلا عادلا. لكنها بدلا من ذلك عزلت القضية عن بقية العرب وجعلتها قضية شعب فلسطينى مشرد وحيد منهك معزول عن أمته فى وجه نظام استعمارى استيطانى عنصرى بربرى مدعوم بأموال وأسلحة ومكانة أمريكا. لقد كان فصلا من الكذب والخداع الأمريكى ومن البلادة السياسية العربية.
***
اليوم، وفى كامب ديفيد، ستكذب أمريكا، وستعزل موضوع الخلافات مع إيران من مستواها العربى لتجعلها قضية خليجية – ايرانية، وكالعادة ستنطلى الكذبة وستبقى الخلافات مع إيران تدور فى حلقة مفرغة سنة بعد سنة، تماما كما هو الحال مع القضية الفلسطينية.
يا أمة العرب، متى ستخرجى من سذاجة الطفولة وبراءتها إلى مرحلة الفهم والتعلم من الخبرة؟ متى؟