تتغنّى نيللى أشطر وألطف وأرشق فناناتنا الاستعراضيات بكلمات الرائع صلاح چاهين فى فوازير رمضان لعام ١٩٨١ التى تدور حول موضوع الخاطبة فتقول: الخاطبة بتاعة أهل زمان اللى جرابها دايمًا مليان.. بصور فتيات وصور فتيان، غربا وبتخليهم قربا-غربا، قربا..". مع حلول الثمانينيات من القرن الماضى لم يعد دور الخاطبة بنفس ازدهاره الذى استمر تقريبًا حتى مرحلة الستينيات، ثم أدى تزايد الاختلاط بين الجنسين فى مختلَف مجالات الحياة إلى توفير قنوات للاتصال بين الغربا وتحويلهم إلى قربا-على رأى صلاح چاهين. ومع ذلك فإن هذا الدور لم ينته من حياتنا تمامًا بمجرد الوصول إلى مرحلة الثمانينيات، لكن شكله اختلف. فخطوة للأمام أكثر سوف تنقلنا لمطلع الألفية الجديدة وتقودنا إلى أن وسائل التواصل الاجتماعى صارت تقوم أحيانًا بدور الخاطبة وتعرّف طالبى الزواج من الجنسين ببعضهم البعض، لعل ربنا يوفْق وكل شئ فى النهاية قسمة ونصيب. لكن مع ذلك فإن الخاطبة البشرية شئ مختلف تمامًا- أولًا لأن التوافق ليس حاصل جمع المال مع الحسب والنسب والجمال والأخلاق كما يظهر فى إعلانات الزواج، فهناك تفاصيل كثيرة فى الموضوع تحتاج إلى حسّ إنسانى. كذلك فإن الخاطبة البشرية ترفع الحرج عن الراغبين فى الزواج بعكس الحال مع زواج الفيسبوك لأنها تقوم بدور الواسطة. وأخيرًا فمن مزايا اللجوء للخاطبة البشرية أنها تكون شمّاعة لأخطاء العرسان، بمعنى أنها تكون أول مَن يُلقى عليه باللوم لو تعثّرت الحياة الزوجية. ومثل هذا التملّص من المسئولية يمتّص الشعور بالتقصير، أما فى حالة زواج الفيسبوك فعلى مَن بالضبط ينحو العرسان باللائمة؟ هل على مارك زوكربيرج مثلًا؟. طبعًا لا. والخلاصة هى أن التطور التكنولوچى بجلالة قدره لم يفلح فى إلغاء دور الخاطبة البشرية، فطالما هناك طلب على هذا الدور فسوف يستمر زواج الصالونات.
• • •
بعيدًا عن امتهان دور الخاطبة بشكل رسمى، فكل واحد منّا تعامل مع هذا الدور بأشكالٍ مختلفةٍ، فكان فى بعض الأحيان مدعوًا لأداء الدور، وفى أحيان أخرى كان مبادرًا بالدور، وفى أحيان ثالثة كان هو نفسه موضوعًا للدور. فلست أشك على سبيل المثال فى أن معظمنا طُرح عليه فى مرحلة من مراحل حياته السؤال التالي: ما عندكش عروسة كويسة أو ماعندكيش عريس كويس؟. ووراء مثل هذا السؤال لا توجد فقط ثقة فى أنه عند الواحد/الواحدة منّا يكون السر فى بير، لكن توجد وراءه أيضًا ثقة غير مبررة فى معاييرنا الخاصة فى الشكل والشخصية، وهذا منطق غريب. أذكر قبل أعوام طويلة سألنى أحد المعارف: ماتعرفيش عروسة تناسبني؟ وهذا السؤال فاجأنى فى حينه لأن السائل يفترض أننى قادرة على التمييز بين ما يناسبه وما لا يناسبه، بينما كانت العلاقة بيننا سطحية ولا تتجاوز حدود التعامل الرسمى. وبالتالى لم أردّ السائل، لكن كذلك لم أجبه لطلبه للسبب الذى ذكرته حالًا وهو أننى لا أعرفه جيدًا، هذا إضافة إلى أننى من أشّد المؤمنين بالمثَل الشعبى الذى يقول ما تمشيش فى جوازة، وإن كنت بالتأكيد أيضًا لا أحب أن أمشى فى جنازة.
• • •
لكن لأن لكل قاعدة استثناء، يلزم التنويه إلى أننى كسَرت قاعدة عدم المشى فى الجوازات بكامل إرادتى ومن تلقاء نفسى فى حالات قليلة. ففى محيطنا يوجد بعض الأشخاص الذين نراهم يستحقون أفضل الأفضل من كل شئ.. نخاف عليهم حتى لو لم يكونوا من صلبنا.. ونخشى أن نغادر الدنيا قبل أن نراهم فى الكوشة ونأخذ معهم سيلفى وهم/هن فى البدلة الإسموكنج أو الفستان الأبيض والطرحة. ويشجعنا هذا الشعور على أن نتطوّع بترشيح النصف الآخر له أو لها، ونمارس طواعية دور الخاطبة. أقول إذن إننى قمت بهذا الدور لعدد أقل من عدد أصابع اليد الواحدة لطلاب سابقين من الجنسين، من باب"خدوا عينى شوفوا بيها". وآخر هؤلاء الشباب كان أحد أقرب طلابى السابقين إلى قلبى، والذى يحتكر وحده أكثر من نصف عدد الحالات التى قمت فيها بدور الخاطبة، لكنه فاجأنى كما فاجأ الجميع قبل عدة أيام بزواجه عن غير طريقى... ماشى يا چورچ! أفتح قوسين لأعلن إننى لا أخجل من الاعتراف بأن محاولاتى المحدودة فى جمع أى رأسين فى الحلال لم تنجح أبدًا لا مع هذا الشاب ولا غيره، حيث ظل كل رأس لحاله. وربما يرجع ذلك بالتأكيد إلى إننى لست متمرسة على دور الخاطبة. كذلك يرجع فشلى إلى أننى أعتبر النظرة الأولى هى ترمومتر التوافق، فما لم يحصل فيها "بوم بوم" كما قال عبد السلام النابلسى فى فيلم"علمونى الحب"- فمن الصعب أن يحصل ذلك لاحقًا. ومن جانبى فإننى لا أحاول أن أعطى هذا النوع من العلاقات فرصة كى ينتهى نهاية سعيدة. تتغنّى سيدة الغناء العربى بكلمات أحمد شفيق كامل فتقول "ولما شفتك أول ما شفتك، بكل شوق الدنيا لقيتنى مشدود إليك.. وبكل حب الدنيا ناديتك وجريت عليك". أغنية الحب كله ليست أفضل ما غنته أم كلثوم لأحمد شفيق كامل، لكنها تعبر أكثر من غيرها عن معنى البوم بوم الذى أقصده. بالمناسبة لا يخلو الأمر من زيجات ناجحة لاثنين يعرف أحدهما الآخر من سنين دون أن تراودهما فكرة الارتباط أو يكون بينهما بوم بوم ولا يحزنون، ثم إذ فجأة يقرران الزواج كما لو أن كيوبيد كان فى حالة كمون.
• • •
وبالطبع فإن معظمنا أيضًا كانوا فى مرحلة ما من مراحل حياتهم مرشَحين للزواج عن طريق الخاطبة. ومازلت أذكر حتى الآن كيف تطوّع المعارف بلعب هذا الدور معى بعد تفوقى فى امتحان الثانوية العامة. ومع أننى نجوتُ منهم والحمد لله، إلا أننى لم أفهم أبدًا ما هى العلاقة بالضبط بين درجات التاريخ والجغرافيا وبين مؤهلات تكوين أسرة. عمومًا سيظل موضوع الخاطبة مليئًا بالألغاز والحواديت والأمثال الشعبية والصُدف والمفارقات والتفاصيل المذهلة، فشكرًا لطالبى العزيز على قلبى الذى فتح لى صندوق البندورة ثم سافر لقضاء شهر العسل.