منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية التركية الأسبوع الماضى، لم تكف التعليقات والتحليلات عن التدفق. حدث هذا فى دول شرق أوسطية عديدة وحدث فى الأوساط الأمريكية والسياسية للولايات المتحدة، كما حدث فى أوروبا والتى ما إن أعلنت المؤشرات الأولية للانتخابات التركية حتى انبرت الشبكات الإعلامية والأكاديمية والسياسية فى التعليق والتحليل، إلا أن الوضع فى مصر اختلف قليلا حيث تنحت التحليلات العلمية لصالح لغة الردح والتشفى والتشنج فى معظم التعليقات ومن جميع الأطراف لأسباب كثيرة أهمها قطعا ذلك التوتر الشديد فى العلاقات بين القاهرة وأنقرة منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣ على إثر الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسى من الحكم.
***
فى السطور القادمة أكتب عن قراءتى الشخصية لنتائج هذه الانتخابات فى سياق المقارنة الإجبارية بين تجربة التحول الديموقراطى فى كل من مصر وتركيا.
أولا: ضربت أصوات الناخبين الأتراك سياسات أردوغان الطامحة إلى إعادة بث الخلافة العثمانية الإسلامية فى ثوب بعد حداثى. فمنذ أن تم انتخابه رئيسا بـ٥٢٪ من أصوات الناخبين فى أغسطس الماضى وهو يسعى إلى تغيير الدستور التركى من خلال تحويل نظام الحكم من البرلمانى إلى الرئاسى بحيث يواصل دور الزعامة الذى لعبه منذ ٢٠٠٢. كثرت الانتقادات لسياساته الإقصائية وتصريحاته المتعجرفة كما زادت اتهامات الفساد الموجهة له ولحزبه سواء على المستوى المالى أو الإدارى، فضلا عن تزايد انتهاكاته لحريات التجمع والتظاهر والرأى، حتى باتت تركيا تصنف فى المرتبة ١٤٩ من اجمالى ١٨٠ــ فى مقياس حرية الإعلام والصحافة. خسر حزب أردوغان (العدالة والتنمية) ما يقارب الـ١٠٪ من الأصوات التى حصل عليها فى انتخابات ٢٠١١، ومعظم الأصوات التى خسرها كانت فى تقديرات كثيرة من أصوات الطبقة الوسطى التى ساهم هو وحزبه فى رفع مستوياتها المعيشية ويعتقد أنها صوتت له فى انتخابات ٢٠٠٧و ٢٠١١ ولكن ها هى تعاقبه بالصندوق.
ثانيا: تمكن حزب الشعوب الديموقراطى (أول حزب رسمى يمثل الأكراد فى البرلمان) من تخطى عتبة الـ ١٠٪ اللازمة للحصول على مقاعد برلمانية، وحصد ١٣٪ من إجمالى مقاعد البرلمان ليحصل على ما يقرب من ٨٠ مقعدا سوف تمكنه من أن يكون رمانة الميزان سواء اشترك فى الائتلاف الحكومى أو فى المعارضة. هذه النسبة يرجعها المحللون إلى قدرة الحزب على الخروج من العباءة الإثنية والقدرة على تسويق نفسه كحزب ليبرالى متحيز لقضايا الحريات والمرأة والأقليات والشباب. فوز الحزب بهذه المقاعد من شأنه أن يساعد فى مزيد من دمج الأقليات الكردية فى المشهد الديموقراطى والتغلب على النزعات الانفصالية أو على الأقل المساهمة فى إيجاد سياق ديموقراطى سلمى لحلها بدلا من الرهانات العنيفة التى اتسم بها الفعل الكردى تاريخيا تجاه الوطن التركى. وعلى الرغم من أن الفضل يرجع إلى حزب العدالة والتنمية فى حلحلة القضية الكردية تدريجيا، إلا أن سياسات أردوغان الأخيرة تجاه الأكراد جعلت تمثيل حزبه يقل من 6 مقاعد من أصل 11 مقعدا فى محافظة ديار بكر (ذات الأغلبية الكردية) فى برلمان 2011 إلى مقعد واحد فقط فى الانتخابات الأخيرة.
ثالثا: على عكس خلفية شديدة الاستقطاب سبقت الانتخابات بين مؤيدى أردوغان ومعارضيه، لدرجة ارتفاع نسبة عدم الرضاء على أداء النظام الديموقراطى فى تركيا بحسب الباحث التركى Senguhan Ozgehan من ٣٣٪ فى ٢٠١١ إلى ٤٥٪ فى ٢٠١٥، وكذلك انخفاض نسبة المعتقدين بنزاهة الانتخابات (قبل أن تعقد) من ٧٠٪ فى ٢٠٠٧ إلى ٥٧٪ فى ٢٠١١ ثم إلى ٤٥٪ فقط فى ٢٠١٥، فإن الإقبال على صناديق الاقتراع كان تاريخيا بنسبة ٨٦٪ من إجمالى الأصوات المسجلة وهو رقم قياسى بالمعايير العالمية أنتج أكبر تنوع فى تشكلية البرلمان التركى منذ إنشاء تركيا الحديثة بتمثيل أربعة أحزاب رئيسية بأوزان ثقيلة نسبيا هى بترتيب الحصول على المقاعد (التنمية والعدالة، الشعب الجمهورى، الحركة القومية، الشعوب الديموقراطى) فضلا عن ارتفاع نسبه تمثيل المرأة إلى ١٨٪ مع تمثيل المسيحيين بأربعة مقاعد والأيزيدين بمقعدين، فضلا عن مقاعد الشباب لتكون تركيا أمام تنوع غير مسبوق فى تاريخ تمثيلها النيابى.
***
رابعا: من شأن هذه النتائج أن تنهى عصر الحزب الواحد فى تركيا والذى استمر منذ ٢٠٠٢ وحتى الآن وأن تساهم فى تشكيل برلمان أكثر رقابة على أعمال الحكومة الائتلافية لتنهى انتهاكات أردوغان لحريات الإعلام ولتضع مزيدا من الرقابة على أداء الحكومة الإدارى والمالى، وكذلك من شأن ذلك كله أن يغل يد تركيا فى سياساتها الخارجية وخاصة تجاه النظام السورى مع احتمالات طفيفة لتحسين علاقاتها مع مصر، وكلها علامات إيجابية (بحسابات الديموقراطية التشاركية التمثيلية) لأنها ستجنب تركيا مصير الديموقراطية الشكلية المتسلطة التى كان يسعى إليها أردوغان بوضوح.
خامسا: لا يعنى هذا بالضرورة أن ديموقراطية تركيا فى أمان، ففرص تشكيل حكومة ائتلافية فى التاريخ التركى سواء كانت حكومة أقلية أو ائتلاف أغلبية دائما ما كانت ضعيفة ودائما ما انتهت بانقلابات عسكرية كما حدث مثلا فى السبعينيات والتسعينيات، ولم يشهد التاريخ التركى الحديث أن أكملت أى حكومة ائتلافية مدتها أبدا وهو تحد قوى للقوى السياسية الآن التى لم يعد أمامها سوى خيارين فإما الائتلاف وإما عقد انتخابات جديدة إذا لم يتم الاتفاق بحسابات جديدة وغير متوقعة.
تركيا ليست دولة «مثالية» ولكنها دولة «ديموقراطية» وهذا هو ببساطة الفارق بينها وبين مصر. فبينما تتقدم تركيا على مصر بـ٧٠ سنة سياسية منذ أن بدأت تجربة التعددية السياسية منتصف القرن الماضى ودخلت فى حلقات مفرغة من الحكم المدنى والانقلابات العسكرية المتوالية مع مراحل متباينة من تأميم البيئة السياسية وانفتاحها حتى وصلت إلى الصيغة الحالية من الديموقراطية التمثيلية التى تتعرض الآن لاختبار التشاركية. فإن مصر مازالت تبحث عن نقطة البداية فى طريق التحول الديموقراطى، وهو طريق طويل سيأخذنا يوما ما إلى طريق مماثل للطريق التركى ولكن بعد أن تتعلم الأطراف المتصارعة فى المشهد (العسكريون والإسلاميون والليبراليون واليساريون وغيرهم) أن تكلفة الانفراد بالحكم غالية وأن تأميم البيئة السياسية والمجتمعية بل وعسكرتها لن تقود أبدا إلى تنمية أو تقدم أو استقرار مهما ادعى الحاكم تفرده بخبرات لا مثيل لها أو بمدد ربانى غير مشهود.
مازالت تركيا تتعلم ومازالت ديموقراطيتها التشاركية فى خطر ومازال لديهم أمثال النائب محمد عكار رئيس حزب العدالة والتنمية فى محافظة ديار بكر والذى لم يفهم من أسباب تراجع عدد الأصوات التى حصل عليها حزبه سوى أنها بسبب «مؤامرة من اللوبى الصهيونى والصليبين على حزب العدالة والتنمية لأنه صوت الإسلام فى تركيا والعالم»، كما نقل عنه منتدى الشرق الأوسط. أمثال عكار من بعض الإسلاميين مازال أمامهم طريق طويل لتعلم الديموقراطية ولكنه محظوظ لأنه فى بلد قطع شوطا لا بأس به من عملية التعلم الديموقراطى وعليه خوض المزيد حتى يشتد عود الديموقراطية أكثر بالخبرات والدروس الصعبة. أما فى مصر فعلى الإسلاميين الكف عن تقديس أردوغان والتعلم من نجاحاته كما من إخفاقاته، والأهم عليهم الإيمان بأن الديموقراطية ليست مطية للتمكين والسيطرة، ولكنها آلية لتداول السلطة والتوازن والفصل بين السلطات، كما على النخب الموصوفة بالمدنية فى مصر أن تتخلص من انحيازتها الفجة للسلطوية والشمولية باسم هيبة الوطن. فالأخيرة لن تتأتى إلا عبر عملية ديموقراطية تشاركية تقبل الآخر وبدل من الشماتة فى أردوغان عليهم أن يستحوا ويتعلموا كيف يكون إسقاط الخصوم أو تقيدهم بآليات التداول السلمى. وعلى المؤسسة العسكرية أخيرا أن تؤمن أن تأميم المجال العام وقتل السياسة باسم حماية الأمن القومى لن يحمى وطننا ولن يجلب أمننا.
***
على الجميع تعلم خبرات التاريخ والتوصل إلى صيغ تفاهمية تفاوضية لحكم البلاد فى إطار توازن بين المكون العسكرى والمدنى فى مؤسسات صنع القرار السياسى. لا أعلم إن كنا سنحتاج إلى ٧٠ عاما آخرين حتى نصل إلى النقطة التى وصلتها تركيا لآن، ربما نختصر المسافة وربما نزيدها عقود، لكننا حتما سنصل، بأى ثمن بشرى وحضارى؟ يبقى هذا هو السؤال.