ربيعنا وخريفهم - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:03 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ربيعنا وخريفهم

نشر فى : الخميس 15 سبتمبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 15 سبتمبر 2011 - 9:00 ص

انتهى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين نهاية لم تتوقعها النخبة الحاكمة فى الولايات المتحدة. بدأ العقد بأمريكا تريد أن تهيمن وتسيطر وتفرد جناحيها على العالم بأسره. ويبدأ العقد الثانى وأمريكا تتراجع وينحسر نفوذها وتنسحب من الخارج وتلم جناحيها لتحمى بهما جسدا امتدت إليه يد التعب والإنهاك.

 

●●●

 

كانت أمريكا فى مطلع القرن، تطمح، بقيادة جورج بوش الابن، إلى أن تحقق حلم بوش الأكبر، حلم إقامة النظام العالمى وحيد القطب. أذكر أن جيرهارد شرويدر وجاك شيراك وفلاديمير بوتين اجتمعوا ليعلنوا نية العمل لإقامة نظام دولى متعدد الأقطاب وإجهاض مساعى واشنطن إقامة نظام دولى أحادى القطبية، أى نظام يقترب من النظام الإمبراطورى. ويكشف الكاتب فيليب ستيفنس فى صحيفة فاينانشيال تايمز عن أن طونى بلير رئيس وزراء بريطانيا أسر إليه ذات يوم بعد تركه الحكومة بأنه اقترب خلال وجوده فى الحكم من جورج بوش الابن حين لاحظ أن الرئيس الأمريكى يصر بشدة على انفراد أمريكا بالهيمنة على العالم، وتأكد أن هذه الرغبة لو تحققت فإنها ستقضى حتما على فرص قيام التعددية القطبية التى تسعى إليها أوروبا وروسيا.

 

وقعت كارثة تفجيرات البرجين وارتطمت طائرة بمبنى البنتاجون واشتعل الغضب الأمريكى وركبت إدارة بوش موجة الكراهية ضد الإسلام السياسى وأحيانا الإسلام كعقيدة وشن الرئيس بوش حربا ضد أفغانستان، وحزبه يعلم علم اليقين، أن أمريكا فى أمس الحاجة إلى عملية إعادة بناء، وليس إلى عمليات توسع وغزو واحتلال فى الخارج. لم يكن ضروريا لرخاء أمريكا واستقرارها فى ذلك الحين إقامة نظام أمنى جديد يقيد الحريات ويتدخل فى حياة الناس الشخصية ويستخدم أساليب الطوارئ فى تصفية خصوم أمريكا. لم تكن أمريكا فى حاجة إلى الدخول فى حروب خارجية لا يمكن أن تعود عليها إلا بالكوارث، خاصة أن أغلب مرافق أمريكا بما فيها نظم التعليم والصحة والمواصلات كانت فى حاجة إلى إصلاح أو إعادة بناء.

 

●●●

 

انتهى العقد التعيس الذى دشنه رئيس لا يحمل لنفسه ثقة كبيرة وتركبه هواجس دينية أغلبها منافٍ للعقل والاتزان. انتهى العقد وأمريكا مشوشة الفكر والممارسة، وهو الوصف الذى استخدمه المؤرخ الكبير بول كنيدى صاحب التسعة عشر كتابا أهمها مجلده القيم بعنوان «صعود وانحدار القوى العظمى». يقول بول كنيدى فى مقال نشرته صحيفة النيويورك تايمز بمناسبة مرور عشر سنوات على كارثة التفجيرات، أنه بعد حربين باهظتى التكلفة خرجت الولايات المتحدة بنظام ضريبى لا يحصل للدولة إلا القليل وديون متراكمة واعتماد أكبر على الأجانب فى التخطيط وإدارة الأعمال والعمالة إذا بالولايات المتحدة تطل علينا الآن، أى مع نهاية العقد الأشد عتمة فى تاريخها، ونسيجها الاجتماعى، حسب تعبيره، مهلهل وفقراؤها وقد ازدادوا فقرا. ويقدم بول كنيدى الدليل على زيادة عدد أفراد الطبقة المحرومة بالازدحام الشديد الذى وجده خلال زياراته التى قام بها إلى «مطاعم الرحمة»، ويسمونها فى أمريكا «مطابخ الحساء». ويضيف قائلا إن التعليم الحكومى انهار وتراجع الاستثمار فى مشروعات إنشاء الطرق وشبكات الطاقة والسكك الحديدية وتجديدها.

 

هذه الصورة التى يكشف عنها بول كنيدى، يشاركه فى رسمها عشرات بل مئات من مفكرى الولايات المتحدة ومعلقيها وعلماء السياسة بمناسبة مرور عقد على كارثة نيويورك. هناك ما يشبه الإجماع يربط بين هؤلاء المفكرين الأمريكيين وأقرانهم الأوروبيين حول توصيف الحالة النفسية للشعب الأمريكى بعد مرور عشر سنوات على هذه الكارثة. يعتقدون أن الأمة الأمريكية هى الآن أقل ثقة بنفسها ومستقبلها عن أى وقت مضى، وهى النتيجة نفسها التى خلصت إليها استطلاعات الرأى التى تجريها مؤسسة «Pew» المعروفة. دليلنا الآخر أنه فى معظم ما قرأنا ونقرأ هذه الأيام لم نعد نقابل فى الكتابات وفى الخطاب السياسى الأمريكى الغطرسة التى كانت تداهمنا قبل تفجيرات نيويورك وبعدها مباشرة.

 

●●●

 

نسمع هنا ونقرأ عن كيف أن العشر سنوات الأخيرة غيرت الرئيس مبارك. يقول أنصاره وخصومه أيضا إنه كان معتدلا ومعقولا فى العشرين سنة الأولى من حكمه، وصار مستبدا وفاسدا وجبارا فى السنوات العشر الأخيرة. ونسمع هناك ونقرأ عن كيف أن أمريكا كانت أفضل حالا، وبخاصة بعد انفراط الاتحاد السوفييتى والحرب الخاطفة ضد العراق فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، قبل أن تتدهور خلال السنوات الأخيرة من القرن الماضى. ومع تقديرنا لمن نسمعهم هنا ونسمعهم هناك، نعتقد، وبكل الثقة فيما نقول، إنه لا مبارك ولا أمريكا كانا أفضل حالا. كل ما هنا لك هو أن أمريكا قررت خلال العقد الأخير إطلاق أيدى أجهزتها الأمنية والاستخباراتية وسلطاتها التشريعية، وكذلك أيدى حلفائها فى الخارج وبخاصة فى الشرق الأوسط والعالم الإسلامى، فى حملة هدفها تقييد الحريات وفرض الاستبداد أو دعمه وقمع الحريات وإذلال المواطنين والتعدى على خصوصياتهم وإخضاعهم لمراقبة مشددة وتوسيع الفجوات بين الفقراء والأغنياء إلى الحد الذى يكسر كرامة الفقراء ويدفعهم إلى اليأس والاستسلام.

 

لذلك، لا يفاجئنا ما نراه فى أمريكا، على الأقل منذ ترشح باراك أوباما للرئاسة، ولا ما نراه فى جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم الإسلامى ودول أخرى من نزوع فى اتجاه الثورة. ففى لحظة واحدة من لحظات نهاية العقد اكتشف الرأى العام العربى والإسلامى وحكامه المستبدون أن أمريكا «تشوشت» وزاغت أبصارها وفقدت الوازع الاخلاقى بسبب تصرفاتها الوحشية فى العراق وأفغانستان وتكليفها حلفاء لها ليقوموا بمهام تعذيب المعتقلين. ومع فقدانها الوازع الأخلاقى فقدت حقها فى ادعاء قيادة أحرار العالم والثائرين ضد الظلم. فى تلك اللحظة التاريخية شعر الناس فى كل مكان أن العقد البائس انتهى وبنهايته يستأنف التاريخ مسيرته التى اعترضتها فاجعة نيويورك وولايتا الرئيس جورج بوش، يستأنفها بربيع ثورى فى عديد من الدول وبخاصة فى العالم العربى وبخريف الانتكاسات فى الولايات المتحدة ودول أوروبية.

 

يبدو صحيحا ما يقال عن كارثة نيويورك صاحبة الفضل على المنظومة الدولية للجاسوسية والاستخبــــــارات التى استفادت من الحرب ضد الإرهاب. يقول ستيفين هادلى سكرتير مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض فى عهد بوش، إن تفجيرات نيويورك كانت فى الحقيقة ثورة رائعة فرضت على أجهزة التجسس الأمريكية تحديث أنظمتها والتنسيق فيما بينها. يبدو صحيحا أيضا ما يقال من أن التحديث، بمعنى زيادة كفاءة أجهزة المباحث والمخابرات، وبمعنى زيادة نفوذها، شمل العديد من هذه الأجهزة فى معظم دول العالم، وليس فقط فى أمريكا. لقد أخطأت أجهزة الاستخبارات الأمريكية حين تركت الرئيس بوش، وجماعة دونالد رامسفيلد يقررون شن الحرب على أفغانستان ثم العراق استنادا إلى قناعة زائفة هى أن النصر «الباهر» فى حرب تحرير الكويت حافز كافٍ لشن سلسلة من الحروب الخارجية لتكريس الهيمنة الأمريكية. يعتب أندريه باسيفيتش الضابط السابق وأستاذ السياسة والاستراتيجية فى جامعة بوسطن على أجهزة الاستخبارات لعدم تدخلها لإبطال مفعول هذا الوهم فى وقت كانت كل الدلائل تشير إلى أن عهد الحروب القصيرة الحاسمة ككوريا وجرانادا وبنما وحتى فيتنام انتهى، وبدأ عهد جديد من حروب طويلة جدا وغير حاسمة نصرا أو هزيمة.

 

سمعت دونالد رامسفيلد يحذر فى مقابلة أجراها معه فريد زكريا من نية أوباما والكونجرس خفض ميزانية الإنفاق على مزانية الدفاع والاستخبارات. لا يريد هذا الرجل أن يفهم أن ميزانية دفاع أمريكا التى تعادل مجموع ميزانيات الدفاع فى جميع دول العالم أمر من شأنه أن يزيد فى كراهية الشعوب لأمريكا. من ناحية أخرى يستحيل أن يستمر الإنفاق بهذا المعدل إذا اشتدت الحاجة إلى إعادة بناء أمريكا.

لا غرور من جانبنا أو غطرسة إن قلنا إن ما طرحته الثورات العربية يمكن أن يكون طريقا لخلاص أمريكا. غير معقول أن تستمر أمريكا، تحت رئاسة الرئيس أوباما. تدعو إلى حماية الحريات الفردية فى الخارج بينما تشرع أو تجدد تشريعات مقيدة لحريات مواطنيها فى الداخل.

 

الطريق مفتوحة أمام أمريكا للتخلص من عبء القيود على الحقوق والحريات. فبالرغم من التدهور المتتالى فى حال الاقتصاد وحال المجتمع هناك من الأسباب ما يمكن استغلالها لاستعادة قدر من التفاؤل المفتقد. مات أسامة بن لادن وتعود من العراق غالبية القوات الأمريكية، وأفغانستان تعاد إلى أهلها، وتوقف، على معظم الأصعدة وليس فقط الرسمية، استخدام الحرب العالمية ضد الإرهاب. وفى الشرق الأوسط حالة ثورية غير قابلة للعودة إلى الوراء أو لكبح جماحها إلا بتكلفة باهظة إقليمية ودولية، وأخيرا تسرب قناعة متزايدة فى عدد متزايد من الدول بأن نماذج أخرى للنمو الاقتصادى يمكن أن تحقق إنجازات أوفر وبتكلفة اجتماعية وسياسية أقل من التكلفة الباهظة التى تحملتها الشعوب التى طبق حكامها عليها النموذج الرأسمالى الأمريكى.

 

●●●

 

كارثة نيويورك كانت وبالا، وكانت فى الوقت نفسه الضوء الذى كشف عن حجم الحاجة إلى التغيير «الثورى»، عندنا وعندهم. نحن بدأنا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي