لم يكن المشهد الدولى هذا الأسبوع عاديًا؛ فمع إعلان بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال ودول أوروبية أخرى الاعتراف الرسمى بالدولة الفلسطينية، انفتح مسار جديد فى الصراع الأطول عمرًا فى الشرق الأوسط. خطوة كهذه من دول غربية مركزية، بعضها أعضاء فى مجموعة السبع الصناعية الكبرى. تمثل تحوّلًا نوعيًا من دائرة المجاملة الدبلوماسية إلى فعل سياسى يضع إسرائيل أمام مرآة عزلتها المتزايدة.
الاعتراف الغربى الجديد لم يأتِ من فراغ؛ فمشاهد المجازر اليومية فى غزة، وحصيلة تفوق 65 ألف شهيد فلسطينى منذ أكتوبر 2023، دفعت الرأى العام العالمى للضغط على حكوماته. رؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات كبرى تحدثوا جميعًا عن إحياء أمل «حل الدولتين»، وإعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية التى طالما ظلت أسيرة تفاوض بلا نهاية. فالبرتغال وصفت الخطوة بأنها «التزام بمبدأ راسخ فى القانون الدولى»، بينما شدد قادة فرنسا وبريطانيا وكندا على أن الاعتراف هو محاولة لإعادة السياسة إلى مسارها بدل أن تبقى رهينة القوة العسكرية وحدها.
إسرائيل من جانبها ردت بغضب؛ بنيامين نتنياهو وصف الاعتراف بأنه «مكافأة للإرهاب»، وكرر عبارته الشهيرة: «لن يكون هناك دولة فلسطينية غرب نهر الأردن»، ووزراء فى حكومته اليمينية المتطرفة دعوا إلى ضم الضفة الغربية رسميًا، فى تحدٍ سافر للقانون الدولى. لكن هذه اللغة التى استُخدمت لعقود لتخويف الغرب لم تعد تجد الصدى ذاته، بالعكس، فقد تحولت إسرائيل فى نظر كثيرين من «دولة تدافع عن نفسها» إلى قوة احتلال تمارس الفصل العنصرى وتتعامل بازدراء مع المجتمع الدولى.
• • •
صحيح أن الاعتراف بحد ذاته لا يُنشئ دولة كاملة السيادة؛ فالدولة تحتاج إلى أرض متصلة، وحدود واضحة، وعاصمة قابلة للحياة فى القدس الشرقية، وهذا ما تقاتل إسرائيل لحرمان الفلسطينيين منه عبر الاستيطان الذى حوّل الضفة الغربية إلى جزر مقطعة الأوصال: لا مطار فلسطينيا، ولا ميناء، ولا سيطرة على المعابر، وغزة تعيش تحت حصار خانق. لكن الاعتراف يفتح ثغرة سياسية وقانونية يمكن البناء عليها، خصوصًا إذا ما ترافق مع مساعٍ للحصول على العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة أو تحريك ملفات المحكمة الجنائية الدولية.
الأمر اللافت أن هذا التحول لم يعد محصورًا فى دول الجنوب أو بلدان العالم الثالث التى سبقت واعترفت بفلسطين منذ عقود. الجديد أن دولًا غربية كانت تاريخيًا أقرب إلى إسرائيل بدأت ترى أن الاستمرار فى إنكار الدولة الفلسطينية يفاقم الأزمة بدل أن يحلها. هذا التحول يعكس أيضًا حجم الضغط الشعبى فى تلك الدول؛ حيث بات الرأى العام يعتبر استمرار الاحتلال تهديدًا للقانون الدولى ولمكانة دولهم الأخلاقية.
الموقف الأمريكى يبقى حجر العثرة الأكبر. واشنطن وصفت الخطوات الأوروبية بأنها «رمزية»، وأكدت أن أولوياتها تظل «تحرير الرهائن وضمان أمن إسرائيل». ألمانيا والنمسا شددتا على أنهما تؤيدان حل الدولتين لكن بعد التفاوض المباشر. لكن صلابة الرفض الأمريكى التقليدى لم تمنع اتساع دائرة الاعترافات، إذ باتت أكثر من 150 دولة اليوم تعترف بفلسطين، أى ما يزيد على ثلاثة أرباع أعضاء الأمم المتحدة.
• • •
فى العمق، الاعترافات المتتالية تعكس واقعًا سياسيًا جديدًا: أن إسرائيل تفقد تدريجيًا القدرة على فرض روايتها، وأن الرأى العام الدولى بات يرى أن الاحتلال ليس «الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط». ولعل هذا ما يفسر حدّة تصريحات نتنياهو وتهديده بالمزيد من الاستيطان، إذ يدرك أن ما يخسره على الطاولة الدبلوماسية لا تعوضه القوة العسكرية مهما بلغت جرائمها.
يبقى التحدى الأكبر أمام الفلسطينيين أنفسهم: كيف يحولون هذا الزخم الاعترافى إلى مسار سياسى عملى؟ ذلك لن يتحقق إلا بإنهاء الانقسام الداخلى، وترتيب البيت الفلسطينى، وربط مطلب الدولة ببرنامج واضح يحدد الحدود وعاصمتها القدس الشرقية، ويضمن الحقوق الأساسية للشعب تحت راية واحدة.. بدون ذلك، سيبقى الاعتراف ناقصًا ومعلّقًا.
• • •
الخلاصة أن العالم يعترف اليوم بدولة فلسطين، فيما إسرائيل ترد بالحصار والتهديد. هذا وحده يلخص التحول الجارى: عزل وتطويق لإسرائيل على المسرح الدولى، مقابل عودة فلسطين إلى خريطة الشرعية الدولية، قد لا تكون الدولة قد قامت بعد على الأرض، لكنّها باتت حقيقة سياسية لا يمكن محوها، مهما ارتفعت جدران الاحتلال أو اتسعت المستوطنات.