نشرت صحيفة الشرق الأوسط مقالا للكاتبة آمال موسى بتاريخ 12 نوفمبر تناولت فيه أن العالم لم يعد كالسابق وأنه بصدد التحول والتغيير، لذا يجب على الدول العربية الاستعداد لهذا التحول بالتطور والبناء والاعتماد على الذات... نعرض من المقال ما يلى.
كل العالم اليوم فى لحظة خاصة جدا وتتميز بالغموض المكثف. فالعالم بصدد التحول والتغيير ولكن من الصعب تحديد مآل هذه التحولات.
من المهم ملاحظة أن جائحة «كوفيد 19» من القوة بمكان إلى درجة أن الذين قالوا وهم فى أوج الجائحة إن العالم بعد «كورونا» ليس هو نفسه قبله، لم يكن كلامهم على محمل التلاعب بالكلام أو الفكر الواهن.
بالفعل هناك مخاض وهناك غموض وهناك صعوبات، إلا أن كل ذلك تنتشر منه بعض الأضواء الخافتة، تبين لنا أن هناك حقائق بصدد التشكل وإعادة الصياغة مفادها أن النقطة الأكثر وضوحا فى كل الغموض الدولى اليوم هى أنه لا مفر من التعويل على الذات ومن أن تخوض كل دولة من دولنا اليوم غمار الامتحان والبناء مهما كان صعبا وشاقا وعديم الموارد.
أولا يجب ألا يذهب فى أذهاننا أن الخطاب الدولى حول التضامن والتعاون ينطبق على الجميع، فالعالم لا يتضامن إلا مع من يعوّل على نفسه ويشق طريقه ويحتاج إلى الدعم فقط.
بل إنه فى اللحظة التى تبرهن فيها المجتمعات أنها مستعدة للتشمير عن السواعد وبذل الجهد والعرق والأفكار والاجتهاد من أجل التغيير الاجتماعى وإيجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية المواتية، هى تلك اللحظة التى تكون فيها الدولة قد نهجت طريق التعويل على الذات.
إنّها الحقيقة: لا مفر من التعويل على الذات. المجتمعات تبنى ذواتها بنفسها وتضع الأساس ثم يمد لك العالم يده بعد أن تكون قد خضت مخاضات التعافى والبناء بمفردك.
قد يبدو هذا الأمر محبطا فى الظاهر ولكنه واقعى، وهذا فى حد ذاته يكفى لاعتماده كفلسفة وجود.
طبعا التعويل على الذات يستوجب وحدة اجتماعية وتضامنا اجتماعيا يرصد المتوفر ومقومات العيش الذاتية ويقارن الموجود واقعيا بما يمكن تحقيقه لو تم توخى الحوكمة وحسن التصرف فى جميع أنواع الموارد البشرية والطبيعية.
وفى الحقيقة تمتلك مجتمعاتنا من الذكاء ومن رأس المال البشرى الشبابى ومن الحجم الديموغرافى الكبير من الأطفال ما يجعلها مجتمعات ذات أفق ومستقبل وأجيال قادمة. وهى مسألة مهمة جدا لأن هناك بلدانا متقدمة وذات رفاهية ولكنها تعانى من التهرم السكانى الحاد ومن عزوف عن الإنجاب. وعند الحديث عن مجتمع فنحن نتحدث عن الغد وعن الأجيال، وهى ثروة لو عرفنا كيف نزنها ونقيمها.
من ناحية ثانية من الخطأ النظر إلى المنجز فى العقود الأخيرة فى البلدان العربية على كونه سلبيا، فيكفى الأجيال والملايين من أصحاب الشهادات اليوم، وتكفى النخب العالية الكفاءة فى مجالات الطب والعلم والعلوم الإنسانية والاجتماعية والهندسة، فكل هذا هو نتاج استثمار كبير فى رأس المال البشرى وهو ما سيجعل اليوم، وأكثر من أى وقت مضى، من عملية التعويل على الذات ممكنة ومضمونة وناجحة أيضا.
المؤكد أنه بعد عقود من الاستقلال فإن كل البلدان العربية ومهما كان وضعها قادرة على أن تتبنى خيار التعويل على الذات أو هى بصدد تحقيق كفاءة التعويل على الذات، باعتبار أن خاصية التعويل على الذات إنما تمثل فى حد ذاتها نتيجة لمسار كامل من مشاريع بناء دول الاستقلالات العربية، أى إنها كنتيجة إيجابية تضاف إلى نقاط قوة الدولة. فالتعويل على الذات هو فى حد ذاته نتاج اشتغال على الذات.
أيضا أن تكون مجتمعاتنا قادرة على التعويل على الذات فهذا يعنى أنها تمتلك قدرة التطوير، وأن لها من مقومات الصمود والتأقلم واللحاق بالركب. لذلك فإن الأهم من كل أشكال الدعم الخارجى الممكنة هو أن نكون بالفعل نمتلك القدرة على التعويل على الذات، وأن نمتلك الحد الأدنى من المنجز القابل للبناء عليه وتنميته. ولعله من المهم الانتباه إلى أن كل ما ننجزه فى مسار التعويل على الذات إنما هو ينضوى ضمن المكاسب ويُحسب فيما تم خلقه فى مجال الثروة، فى حين أن الدعم قد يكون فى جزء منه عبئا.
لا يفوتنا التركيز على نقطة نعدّها مفصلية، وهى أنه كلما تقدمنا أكثر فى طريق التعويل على الذات وقطع الخطوات المهمة كبرت قدرتنا على التفاوض وعلى فرض أولوياتنا ومقاربتنا فى علاقتنا بالآخر قوة وثقافة وموقفا وخيارات.
كل النجاحات الفردية هى قصص تعويل على الذات. وما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمعات والدول. بل إن قصة تعويل المجتمع على ذاته الجمعية الغنية لا يمكن إلا أن يحتفى بها العالم حاضرا وفى التاريخ الإنسانى.
المجتمعات العربية تمتلك كل مقومات التعويل على الذات... فقط شجاعة أكبر.