معظم الناس لا تتواجه، بمعنى أنها لم تعد تلتقى لتناقش أمورها وجها لوجه. أكثرنا يتحدث بعضه إلى البعض الآخر عبر وسائل اتصال ليس من بينها الاتصال عبر التخاطب مباشرة عندما تكون العين فى العين واليد فوق اليد وعندما تكون لغة الإشارة شريكا مع لغة اللسان فى نقل الرسائل. نحن الآن كأفراد فى عائلة لا نلتقى متواجهين، أى وجها لوجه، إلا فى المناسبات كأعياد الميلاد والأعراس وبعض الأعياد الدينية مثلا.
يحدث أحيانا وليس كثيرا أن تجتمع العائلة، الأب والأم وأولادهما فى غرفة واحدة، ولكن غير متواجهين. يتحدث من يريد التحدث وعيناه على شاشة الكمبيوتر، وينصت إليه من يريد أن ينصت وحواسه مسلطة على شاشة التليفزيون وغارقة فى متابعة فيلم أو مسلسل أو نشرة أخبار، وينصت آخر وأصابعه تكتب رسالة نصية لتبعثها عبر هاتفه النقال. آخرون فى الغرفة يزعمون أنهم ينصتون، وهم فى حقيقة الأمر يتحدثون عبر هواتفهم إلى أقران خارج المنزل وربما خارج البلد.
واقع الأمر هو أن الأهل يجتمعون ولكنهم لا يندمجون ولا يتشاركون ولا يتشاورون.. أنت فى البيت بينهم ولكن لست معهم، وقد تكون بين أقرانك على فيس بوك ولست فى الحقيقة مع أى منهم. أنت بين الناس معظم الوقت وأكثر من أى وقت مضى ولكنك لا تراهم ولا يرونك وجها لوجه.
●●●
يقال إن «التواجه» ينهك العقل ويستنزف العواطف ويبدد الطاقة ويحتاج لجهد. ما يحدث فى جلسات يجرى التخاطب فيها وجها لوجه أننا نركز على خطاب من يتحدث إلينا وننظر فى عينيه لنؤكد أننا مهتمون. لا نستطيع أن نشرد أو نريح جفوننا وعيوننا فالسلوك الطيب يحثنا على أن ننشرح ونكتئب حسب الموقف وتضامنا مع المتحدث، ولا أحد ينكر أن هذا السلوك منهك. ثم إننا لسنا أحرارا فى جلسات من هذا النوع. نحن مثلا لا نملك خفض صوت المتحدث إن كان مرتفعا وتهذيبه إن كان خشنا أو مشوشا، ولا نملك رفع صوته إن بقى خافتا لا يناسب حالة السمع عندنا. نحن لا نملك آلية تساعدنا على التحكم فى صوت من يتحدث وهو جالس أمامنا أو إسكاته إذا عنّ لنا أن نسكته. هذه الرفاهة اكتسبناها من كثرة تعودنا على الضغط على زر مكتوب عليه كلمة Mute، وهى الخاصية التى وفرتها لنا وعودتنا عليها وسائل الاتصال الإلكترونية. نحن أيضا لا نستطيع التهرب من الاستماع إلى حديث الآخر عبر الهاتف المحمول بالتعلل، كما نفعل كثيرا، بأننا فى سيارة على وشك أن تدخل نفقا فينقطع الإرسال، وفى الغالب لا نحاول استعادته بعد خروجنا من النفق إن كان هناك نفق.
●●●
مر بنو البشر خلال القرن الأخير بمراحل على طريق التحرر من عادة التحدث مع الآخرين وجها لوجه. بدأت برحيل الأولاد عن البيت ليتزوجوا أو للدراسة، ثم انتقلوا إلى مرحلة تبادل الحديث بالرسائل النصية Text messages، وبالغوا فى استخدامها إلى أن طغت فحيدت كل الوسائل الأخرى ثم هيمنت حتى صار الكثيرون يبعثون برسائل نصية، وهم يأكلون أو يشربون أو يتحدثون أو وهم يكتبون.
وقرب النهاية تأتى مرحلة التقاعد. فى هذه المرحلة لا يبحث الإنسان عن آليات للتواصل تعفيه من مشقة الاستماع إلى ما لا يحب أن يسمع. فالمتقاعد بحكم سنه وظروفه لا يقابل غيره من بنى البشر إلا نادرا، وبالتالى لا يتعرض لعلاقات وضرورات الاستماع لآخرين وجها لوجه. مثل هذا المتقاعد نادرا ما يحضر اجتماعات أو يشارك فى مناقشات وغذاءات أو عشاءات عمل. لا شىء يحدث فى حياته يدفعه لممارسة علاقات وجها لوجه إلا فيما ندر أو لظرف غير عادى.
أخيرا جاءت مرحلة الـ«سكاى بى» SKYPE، وهى الأداة الأشد فتكا بجوهر وروح التعامل وجها لوجه مع الآخرين، ربما لأنها الوسيلة الأقرب ألفة، وبالتالى الأخطر على حرية الفرد وخصوصياته. بفضلها يمكن أن نرى الشخص الذى نريد التحدث معه بدون أن نكون معه، وهو ما أعتبره وضعا شديد الغرابة وغير مألوف: أن تتحدث إلى شخص تراه أمامك، وتكاد تلمسه بأناملك، وتكاد تشاركه بالعين والأذن كل ما يحيط به من أشخاص وأشياء، ولكنه ليس معك!
●●●
من مفارقات الثورات العربية أنها حشدت ملايين البشر فى ساحات يهتفون ويحتجون ويتناقشون وجها لوجه بفضل آليات وأساليب كالفيس بوك والتويتر والرسائل النصية وكلها لا تشجع على التواصل المباشر وجها لوجه.