ألقى السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني خطابًا يوم الثلاثاء ٣ يناير الجاري في الذكرى السنوية الثالثة لاغتيال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني وأبي مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق.
هذا الخطاب يمثّل جزءًا متممًا لخطابه السابق في ١١ نوڤمبر ٢٠٢٢، فلقد تناول الخطابان نفس المحاور تقريبًا، وهي موضع الشرق الأوسط من الاستراتيجية الأمريكية، وكذلك موضوع الحراك الشعبي العربي في العموم واللبناني في الخصوص وموقف حزب الله من تلك الاستراتيچية، وأخيرًا ملّف الرئاسة اللبنانية وتطوراته. لكن خطاب يناير بالذات كان ينتظره خصوم الحزب أكثر مما ينتظره جمهوره بعد أن تأجّل الخطاب من ٣٠ ديسمبر إلى ٣ يناير، فإذا كان الجمهور قد هبّ للدعاء وتقديم الأضاحي كي يكتب الله سلامة نصر الله، فإن شائعات كثيرة أطلقها الخصوم ليس فقط عن التدهور الشديد في صحة الأمين العام للحزب لكن وهو الأهم عن مستقبل الحزب بعد حسن نصر الله. ومن هنا استهّل الأخير خطابه بالتأكيد على أنه بخير وأن مرضه الصدري قديم، أما ما لم يقله فهو أن حزبًا له تنظيم محكم كحزب الله وقياداته تحت طائلة التهديد المستمر بالتصفية الجسدية لابد أن تكون لديه آليات محددة لتنظيم عملية تداول السلطة من أمين عام لآخر. هذه الآليات تتمثل في أن يصعد مباشرة لمنصب الأمين العام نائبه حين يلزم الأمر، ثم تنتخب قيادة شورى الحزب المكوّنة من سبعة أفراد الأمين العام الجديد، وذلك بما يضمن ألا يعاني الحزب من الفراغ الرئاسي الذي عانت منه وما تزال الدولة اللبنانية. بطبيعة الحال، فإن شخصية الأمين العام ومدى تمتعه بالكاريزما والقدرات الخطابية والحكمة أمور تختلف واختلافها له وزنه، لكن القواعد المنظّمة موجودة ومستقّرة. أخذًا في الاعتبار سياق الخطاب الأخير لنصر الله، يمكن إبداء ثلاث ملاحظات أساسية عليه.
• • •
الملاحظة الأولى هي أننا إزاء حزب سياسي رغم أساسه الأيديولوچي الواضح، إلا أنه حزب براجماتي يدرك أهمية التقاط الفرصة في اللحظة المناسبة والاستفادة منها ما أمكن ذلك. ففي هذا الخطاب أشار نصر الله إلى قبول الحزب بترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع إسرائيل وعبر تسهيل الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن الأخيرين يشار إليهما في الخطاب السياسي للأمين العام بالشيطان الأصغر والشيطان الأكبر على التوالي. وسواء فسرّنا هذا القبول بأنه رغبة في جعل لبنان يستثمر نصيبه من النفط والغاز الكامن في شرق المتوسط مصداقًا لقول نصر الله "بدنا ناكل عنب" أي نريد أن نستفيد، أو فسّرنا القبول بأنه توافق مع المسؤولين اللبنانيين حول سرعة إنجاز الاتفاق في ظل خطورة الأزمة الاقتصادية الداخلية، أو فسّرناه بأنه إدراك قيمة اللحظة التاريخية التي تريد فيها الولايات المتحدة التفرّغ للحرب الأوكرانية ووقف الصدام المحتمل بين حزب الله وإسرائيل، أقول سواء أخذنا بالتفسير الأول أو الثاني أو الثالث فالمحصلة أن الحزب كان يريد أكل العنب وتغليب المصلحة على الأيديولوچيا. وهذا ذكاء مطلوب.
الملاحظة الثانية هي أن الأمين العام للحزب يعتبر أن الحراك الشعبي الذي عرفه لبنان في أكتوبر ٢٠١٩ هو جزء من مخطط الولايات المتحدة للهيمنة على الشرق الأوسط.
كان هذا المخطط يقوم في البداية على تحريك قوى خارجية لإلحاق الهزيمة بمحور المقاومة كما حدث في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ٢٠٠٦، فلما باءت الجهود الأمريكية بالفشل كان لابد من الانتقال إلى الخطة باء بتحريك قوى داخلية لإشاعة الفوضى بما يسمح بالتمدد الأمريكي مصحوبًا بالتمدد الإسرائيلي. هذا الدور الخارجي في تحريك الداخل الذي يشير إليه حسن نصر الله شهدناه في العديد من الصراعات الدولية، وتكرّر في أكثر من ساحة من ساحات الحراك الشعبي العربي، لكن هنا توجد نقطتان، الأولى أن تحريك الداخل من الخارج لا يقتصر على الولايات المتحدة وإسرائيل فإيران مثلًا صاحبة تاريخ طويل في تحريك الداخل من الخارج وتلك واحدة من أهم العُقَد في العلاقات العربية-الإيرانية، كذلك فعلت تركيا، وكذلك فعل آخرون، وبالتالي ينبغي أن يكون الموقف من التدخل الخارجي لتحريك الداخل واحدًا بغض النظر عن طبيعة المحرّك.
النقطة الأخرى أنه لا يمكن اعتبار حراك أكتوبر محسوبا بمجمله على الخارج لأن هناك أسبابًا حقيقية لهذا الحراك على رأسها نظام المحاصصة الطائفية بكل مساوئه، وعندما هتف اللبنانيون برحيل الطبقة السياسية برمتها فكان هذا هو السقف الأعلى لمطالبهم، لكن أحدًا عاقلًا من المشاركين في الحراك لم يكن يتصوّر أن يرحل الجميع فجأة ويعّم الفراغ، لكن أن يرحل مسؤولو السلطة تباعًا عن طريق انتخابات مبكرة مثلًا. وهذه النظرة بالغة السلبية للحراك الشعبي تعمّق الفجوة بين الحزب والشباب اللبناني الغاضب.
الملاحظة الثالثة أن حسن نصر الله بعد أن أكّد ما سبق له ذكره في خطاب نوڤمبر حول أن الرئيس اللبناني الجديد مطلوب ألا يطعن المقاومة في ظهرها وأضاف أنه "لا ينباع ولا يُشتَرى" ويتمتع بالكفاءة اللازمة لشغل المنصب، فإنه وضع الرأي العام داخل لبنان وخارجه في أجواء المعضلة التي تتعلّق بالتوافق على رئيس جديد، وهنا ذكر تحديدًا خلاف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل مع حزب الله وحلفاء حزب الله. هذا الخلاف يعرفه القاصي والداني لكن الإشارة إليه لأول مرة في الإعلام تقطع آخر أمل لدى باسيل في الترشّح للرئاسة. وإذا كان اللبنانيون ينتظرون عادة خطابات حسن نصر الله ليعرفوا إلى أين تتجه سفينة بلدهم، فأظن أن الانطباع الذي خرجوا به بعد خطابه الأخير على ضوء المواصفات التي وضعها والتشابكات في علاقات القوى السياسية ببعضها- هذا الانطباع هو أن ملف الرئاسة لن يحُسم في القريب العاجل.