أتاحت الذكرى الثانية لتنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك الفرصة لإطلاق عنان الأفكار والأوهام المروجة لوجود مؤامرات داخلية وخارجية ركزت على التخلص من الرئيس مبارك، واستبداله بالإخوان المسلمين.
داخليا، مازال البعض يعتقد خطأ انتهاء الثورة عندما تنحى الرئيس مبارك. لم يكن إسقاط مبارك هدفا فى حد ذاته، بل كان الهدف هو القضاء على كل ما يمثله هذا النظام من مبادئ وسياسات وأساليب استبدادية.
خارجيا، يرصد المتابع لردود الأفعال العالمية على وقوع ونجاح وتطور وتعثر أحداث ثورة مصر، رغبة العالم خاصة الغربى منه، فى عدم فهم وعدم احترام طبيعة وخصوصية «ثورة مصر». من حسن حظ ثورة مصر أنها قامت على الرغم من خلو كل تقارير ودراسات أهم مراكز الأبحاث العالمية، وخلو توقعات أجهزة الاستخبارات المختلفة من هذا الاحتمال، ناهيك عن رؤية ساسة العالم للنظام المصرى السابق كحليف قوى مخلص يدعم الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، واتفاق النخب المصرية فى أغلبها على هذه المعادلة.
من حسن حظ ثورة مصر أن العواصم الكبرى والعواصم الشقيقة تبنت بلا استثناء موقفا متحفظا إما بدعوة النظام السابق لمنح شعبه المزيد من الحريات واتخاذ خطوات فى سبيل إصلاح سياسى مقبول، كما طرحت واشنطن، أو اختارت أن تلتزم الصمت انتظارا لما ستسفر عنه تطورات الأحداث، كما اختارت الرياض او أبو ظبى.
•••
منحت تطورات وعثرات ثورة مصر العالم الخارجى شكوكا مبررة فى مسارها. وظهر تشكيك عالمى فيما تقدم عليه ثورة مصر حتى قبل إسقاط النظام السابق. وبعد تنحى الرئيس مبارك ظهرت توجهات عالمية تريد لثورة مصر أن تسلك طرقا محددة بينما كان الشعب المصرى يستعد للبدء فى طريق طويل لتحقيق مسعاه.
لم يستوعب العالم ديناميكيات الحياة السياسية المصرية الجديدة. فى البداية شهدنا حملة تخويف من احتمال استيلاء جماعة الإخوان المسلمين على الثورة وسط مساع لمنظمات اللوبى الإسرائيلى لحث الإدارة الأمريكية على الضغط على المجلس العسكرى المصرى لإثنائه عن تمرير قوانين انتخابية قد تسمح بوصول إسلاميين للحكم فى مصر. وتارة ينال التخويف من احتمال خطف السلفيين للثورة حيزا كبيرا من الاهتمام العالمى خاصة بعد الظهور القوى لهم فى الانتخابات البرلمانية السابقة، وعدم معرفة العالم بهم من قبل.
أما التخويف من سيطرة العسكريين واحتمال عدم سماح المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيام ديمقراطية حقيقية بما تتضمنه من إجراء انتخابات حرة ونزيهة ومتكررة، فهو عملية بدأت كذلك حتى من قبل تنحى الرئيس المصرى الأسبق. واعتقدت العديد من الأصوات أن جيش مصر الذى حكم مصر منذ 1952 سيستمر فى السيطرة على الحكم حتى بعد نجاح أولى مراحل الثورة.
توقع العالم وأراد أن تقتضى ثورة مصر بتجارب دول أخرى، البعض يريد أن نسلك المسار التركى خاصة فيما آلت إليه العلاقات العسكرية المدنية، وما تتضمنه من حكم رشيد للإسلاميين، ويستشهدون بنجاح حزب العدالة والتنمية فى تحقيق التنمية والديمقراطية معا. البعض يريد أن نتبنى نموذج التحول الديمقراطى فى إندونيسيا ذات الأغلبية المسلمة، والتى نجحت فى إقامة دولة حديثة ديمقراطية وحققت معها معدلات تنمية اقتصادية جيدة. آخرون يقترحون النظر إلى تجارب دول شرق أوروبا، وهناك حتى من طالب بضرورة أن نتعلم من تجارب شيلى والبرازيل.
•••
من حسن حظ مصر أن خصوصيتنا صعبة الفهم ليس فقط على العالم الخارجى، بل أيضا على الكثيرين منا. مصر بخلطتها المكونة من قوى إسلامية وقوى ليبرالية وقوى اشتراكية وقوى غير مسيسة، وقوى شبابية، وقوى شوارعية، وقوى فلولية، تسير جميعا فى طريق لا يرسمه لها أحد إلا الشد والجذب والتفاعل بين هؤلاء جميعا فى لعبة سياسية غير واضحة القواعد، وبها الكثير من الثغرات.
لم تهدف ثورة مصر إلى التخلص فقط من الرئيس مبارك فقط. ولا تهدف ثورة مصر إلى إهداء الحكم لقوة سياسة تستفرد بحكم البلاد. ولا تهدف ثورة مصر إلى منع قوى معينة من حكم البلاد. ثورة مصر تهدف إلى منع قيام استبداد من أى نوع. لذا فالثورة مستمرة إلى أن يتحقق الهدف.
ما حدث ويحدث فى مصر، سواء كان النجاح فى إسقاط النظام، أو ما يجرى من تعثر محاولات بناء دولة حديثة وديمقراطية، وما نشهده من تعبير الشعب المصرى عن نفسه سياسيا، حيث يرتدى البعض رداء الإخوان المسلمين، أو عباءة السلفيين، أو حتى بدله الليبراليين أو شعار اليساريين، هو تفاعل صحى. ما حدث ويحدث من جدل بين المصريين حول طبيعة الدستور، ودور الدين، وهوية الدولة وحول معنى العدالة الاجتماعية.. هو تعبير عن منتج مصرى جديد خالص يصنعه شعب من 90 مليون نسمة، منهم 36 مليونا يعيشون تحت خط الفقر، ومنهم 32 مليون مصرى لا يعرفون القراءة أو الكتابة بلغتنا العربية.
لقد نجحت ثورة مصر فى فرض معادلة جديدة أصبحت فيها جموع الشعب المصرى أهم لاعب فى الحياة السياسية الجديدة خلال هذه المرحلة الانتقالية التاريخية. مستقبل حكم مصر ستقرره حوارى وشوارع مصر.
ورغم سقوط عشرات الشهداء وآلاف المصابين، بين صفوف مواطنين مصريين عاديين، لم يبد أن هناك اى نهاية قريبة لجهود استكمال تحقيق أهداف الثورة.
فريدريش إنجلز، رفيق كارل ماركس، عرف الثورة بأنها «عملية الولادة التى يخرج فيها وليد جديد من رحم المجتمع القديم». لقد اختار الشعب المصرى السيناريو الأصعب وهو بناء دولة لا وجود مكان فيها للاستبداد. وعلى الرغم من وجود وانتشار الكثير من مظاهر القتل والقبح والظلم، لن يسمح الشعب المصرى بالتأسيس لدولة استبداد جديد من أى نوع، وهذا هو جوهر نجاح الثورة المستمرة.