(1)
ما زلت أذكر بحنين جارف أن اتصالى الحميم والعميق بالتاريخ وشغفى اللا متناهى بكل ما هو تاريخى قديم؛ عصر أو حقبة تاريخية أو شخصية مشهورة أو علم من الأعلام إنما يعود بالأساس إلى ما شاهدته فى السنوات الأولى من طفولتى على شاشة التليفزيون من مسلسلات تاريخية أو كان يتم التعامل معها على أنها «تاريخية»!
لا أنسى الشغف الذى كنت أشاهد به حلقات مسلسل (لا إله إلا الله) ثم (محمد رسول الله) و(الكعبة المشرفة)، وكنت أسرح بخيالى البكر فى تفاصيل قصص الأنبياء وحكاياتهم وكفاحهم الإنسانى النبيل؛ وتحول الشغف البصرى فى تلك الفترة إلى شغف قرائى؛ لأننى اكتشفت أو هكذا تصورت أن ما أراه على الشاشة الصغيرة هو الذى أقرأه بعينى من حروف وكلمات أراها أمامى فى السلسلة التى اشتراها لى والدى بعنوان (قصص الأنبياء)، وسلسلة أخرى بعنوان (السيرة النبوية)، وثالثة بعنوان (العرب فى أوروبا).. إلخ.
ولما كبرت عرفت أن مؤلف كل هذه الأعمال واحد، وأن اسمه هو عبدالحميد جودة السحار، الشقيق الأكبر للناشر الشهير سعيد جودة السحار؛ مؤسس مكتبة مصر ودار مصر للطباعة والنشر!
(2)
لم يكن رمضان له طعم أو مذاق بدون طقس قراءة «روايات مصرية للجيب«؛ التى كانت اكتشافا مذهلا، وأنا فى المرحلة الابتدائية، كنت تلميذا بمدرسة أبى الهول القومية العريقة بالهرم، كان بجوار المدرسة مباشرة (مكتبة نور الدين)؛ وأنا مدين باكتشافى ومحبتى لـ (روايات مصرية للجيب)، إلى هذه المكتبة التى كانت تحرص على توفير إصدارات المؤسسة العربية الحديثة؛ ليس فقط من الكتب الخارجية، إنما أيضا من روايات مصرية للجيب؛ التى ظهرت للمرة الأولى عام 1984، وتعرفت عليها مع صديقى آنذاك أحمد صلاح زين العابدين، كنا فى الصف الثالث الابتدائى (موسم 86/ 87) ثم ارتبطنا أكثر فأكثر بسلاسل نبيل فاروق الشهيرة «رجل المستحيل»، و«ملف المستقبل»، و«كوكتيل 2000»، و«بانوراما»، و«فارس الأندلس» و«زووم».. إلخ.
فيما بعد، وفى المرحلة الإعدادية، بدأت أقرأ أعمال نجيب محفوظ، وأتبادل رواياته وقصصه، مع صديقتى العزيزة آنذاك رضوى مصطفى (مساها الله بالخير وطيب أوقاتها بكل خير).
كان الأسبوع الأخير من رمضان يعنى أننى مقبل على بهجة حقيقية تتمثل فى الاستعداد للعيد و«العيدية» التى كانت تعنى بالنسبة لى شراء أعداد جديدة من روايات الجيب؛ أى مزيد من المتعة والشغف ونسيان الدنيا وما فيها؛ ما أحلى القراءة وأبهج العيد وخيرات رمضان وبركاته!
(3)
من رمضان لرمضان، عام وراء عام، نكبر وتكبر أيامنا وتتضاءل الأحلام وتذهب انتعاشات الروح التى كانت تهفهف بقدومه، حين كنا صغارا، لا نحمل للدنيا هما ولا نفكر إلا فى حلاوة الصحبة وتمضية الوقت بفرحة وإصرار على البهجة.. نعم، كان الناس يصرون على البهجة رغم كل شىء، رغم الحر والمعاناة والغلاء (والآن، رغم الكورونا اللعينة)، وكل شىء، لكن هذا الإصرار لم يعد كما كان، لا فى الدرجة ولا فى القدرة.
لكن ورغم سنوات طويلة، تغير فيها كل شىء، كل شىء، ما زالت بقية من إصرار على البهجة فى نفوس الناس، تقاوم القتامة والآلية والعزلة، والواقع الافتراضى، ما زالت بقية من إصرار على البهجة تطل برأسها مع ختام الشهر الكريم فى تحايا وتهانى ودعوات نخلصة ما زالت تتبادل، فى أمنيات صادقة حارة تخرج من القلوب وتلهج بها الألسنة ترنو إلى السماء وتبتهل إلى الله إلى أن ينجينا من الشرور والآثام، وأن يمنحنا القدرة على الحب والتواصل رغم المحنة التى نعانيها بكل هذه القسوة والمرارة والألم؛ سنظل نذكر العام 2020 لو قدر لنا الحياة، وكان فى أعمارنا بقية، إنه العام الذى أتصور أن ما بعده سيختلف جذريا وكليا عما قبله بمراحل. نعم سيكون هناك عالم آخر جديد؛ لكن الله أعلم مدى ما يحمله هذا العالم الجديد من خير أو شر للبشرية كلها!
ولا يكف المرء عن محاولة استدعاء الماضى واستعادته، يود كل امرئ أن يخبرك عن حياة بكاملها تركها خلفه، تلك الحياة التى صار مستبعدا منها الآن، أو بالأحرى من المستحيل معايشتها مجددا، لكنها حياة مضت حفرت تاريخها فى القلب والروح إلى آخر العمر..
وكل رمضان وحضراتكم بخير...