تكنولوجيا التحرير - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تكنولوجيا التحرير

نشر فى : الأربعاء 15 يونيو 2011 - 8:53 ص | آخر تحديث : الأربعاء 15 يونيو 2011 - 8:53 ص
أعلن نيكولا ساركوزى، باسم مجموعة الدول الثمانى، أن حكومات العالم المتقدم يجب أن تستعد لاقتحام مجال جديد واستعماره كما اقتحمت واستعمرت فى القرن التاسع عشر أقاليم فى أفريقيا وآسيا لوقف الفوضى الضاربة فيها وتطويعها لخدمة أهداف الحضارة الغربية. أما المجال الجديد الذى يقصده ساركوزى فهو عالم الإنترنت، هذا الوحش الهائل المهيمن منفردا على حياة بلايين البشر مهددا خصوصياتهم وفاضحا أسرارهم. إنه الآن القوة الأهم اقتصاديا من الزراعة والطاقة حسب قول ماكينزى أحد ثلاثة عمالقة يسيطرون على حركة النشر والإعلام فى العالم الغربى.

•••

عشنا معظم أيام حياتنا نحلم بوسيلة اتصال غير قابلة للاختراق والرقابة، وغير قابلة للحفظ فى أرشيف ورقى أو إلكترونى، وغير قابلة لإعادة توجيهها إلى طرف ثالث دون علمنا نحن طرفى الاتصال. وفى الوقت نفسه، غير قابلة للديمومة، بمعنى أن تكون بطبيعتها جاهزة فى أى وقت ومكان للتخلص منها إذا احتاج الأمر والظرف إعدامها.. وجدنا الوسيلة، وهى الإنترنت. وكانت فرحة الكثيرين بها عظيمة. وأذكر، وأجد دائما من يعيد تذكيرنا، بأن المذيعين المعروفين الأمريكيين الأشهر فى حينهما كاتى كوريش وبريانت جامبيل وكانا يقدمان برنامجا يذاع صباح كل يوم فى شرق الولايات المتحدة، لم يعرفا الإنترنت ولم يكونا قد سمعا به عندما سئلا عنه ذات صباح فى عام 1994. فى ذلك الوقت كان عدد مستخدمى البريد الإلكترونى 15 مليون شخص، زادوا إلى 56 مليونا فى نهاية عقد التسعينيات، ووصلوا إلى ثلاثة بلايين مستخدم فى العام الماضى. أى أننا نتحدث عن ما يقارب نصف سكان الكوكب.

هذه الزيادة فى معدل زيادة مستخدمى الإنترنت، بالإضافة إلى الخوف المتنامى لدى جميع حكومات العالم من اتساع أبعاد هذه الظاهرة، إلى جانب تجاربنا الشخصية مع شبكة الإنترنت جعلتنا أشد ميلا إلى تصديق تنبؤات المتخصصين فى قطاعات الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية وفنون الإعلام والتسويق.

•••

يقول كاتب أمريكى يدعى أليكس بولوس إنه واثق من أننا خلال سنوات قليلة سنشاهد برامج التليفزيون ومسلسلاته ونتسلى بألعاب الفيديو على شاشة كمبيوتر ضخمة ونحن جلوس فى المقاعد الخلفية لسيارات الأجرة فى حلنا وترحالنا، وأن كثيرا من سياراتنا ستزود بجهاز إلكترونى يضمن لقائد السيارة التى تقف خلف سيارتك فى إشارة عبور أو زحمة مرور طويلة الأمد، مشاهدة شريط للأنباء تتتابع كلماته وصوره على الزجاج الخلفى لسيارتك. هكذا تضمن أنت أيضا أنه لن يزعجك بنفيره أوغضبة لسانه.

يقول أيضا إن شركات الأدوية تستعد من الآن لتضع فى علبة الدواء شريطا صوتيا متصلا بمركز اتصالات فى مقر الشركة على بعد آلاف الأميال يتلو على المريض كل مرة يفتح فيها العلبة ملخصا بإرشادات تتعلق بمواعيد تناول الدواء والكمية المتبقية منه فى العلبة وكذلك بالمعلومات الأساسية عنه، بعد أن تأكدت الشركات من أن المرضى، وبخاصة كبار السن منهم، لا يقوون على قراءة الخط الرفيع الذى تطبع به ورقة الإرشادات الطبية المندسة فى علب الدواء.

يتوقع بولوس أن يستمر التطور التكنولوجى الذى حقق أسلوب الأبعاد الثلاثة فى الصورة السينمائية والتليفزيونية حتى يحقق الأبعاد الأربعة. عندئذ سوف ننعم بشم رائحة عطر يستخدمه من نراهم على الشاشة أو روائح تفوح من الزهور التى يقدمها عاشق إلى حبيبته. ولن يمر وقت طويل حتى تتحقق الأبعاد الخمسة فيكتمل إحساسنا بالصورة بتوافر الحاسة الناقصة، حاسة اللمس.

من المؤكد أننا دفعنا ثمنا باهظا وسندفع ثمنا أكبر وأفدح لكل تقدم نحصل عليه مستقبلا من استخداماتنا للإنترنت. فقدنا جانبا من خصوصيتنا حين أصبحنا مكشوفين أمام من نعرف ومن لا نعرف، والأدهى أن كل ما نتبادله اليوم من رسائل إليكترونية سيكون متاحا، أردنا أم لم نرد، لأحفادنا ولأجيال عديدة قادمة وربما لقرون وأغلبه سيكون بالنسبة لهم مادة مثيرة للسخرية.

من ناحية أخرى لن تهدأ الحكومات قبل أن تجد الصيغة المناسبة لاستعادة سيطرتها على هذا الوحش الجامح. خرجت علينا منذ أيام إدارة الرئيس أوباما لتعلن أنها قررت تعبئة جهود عالمية ضخمة لنشر «إنترنت ظل» فى حجم تتسع له حقيبة سفر صغيرة ونظم متقدمة للهواتف النقالة ليستعملها المنشقون والمحتجون لشل حركة الحكومات القمعية التى تحاول إسكاتهم. يطلقون على هذه الجهود عبارة «حركة تحرير التكنولوجيا» من هيمنة الحكومات.

•••

هل نرفض نداءات ساركوزى فى قمة الثمانى وجهود الولايات المتحدة الراهنة فنترك أسرارنا لجشع شركات إعلان وتسويق وفضول مواطنين آخرين وسيطرة أنظمة حكم مستبدة، أم نؤيدها فينتهى الأمر بنا وقد تركنا أسرارنا الخاصة وحرياتنا وحقوقنا فى أيدى أجهزة استخبارات محلية وأجنبية وقطاعات أمنية بعضها فاسد وأكثرها ساع هو الآخر إلى الهيمنة والسيطرة؟

مسألة حقا محيرة.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي