قدمت قمة لاكيلا التى جمعت زعماء الدول الصناعية دليلا جديدا يضاف إلى قائمة طويلة تؤكد أن مجموعة الثمانية فقدت دافع وجودها. كنا نتابع باهتمام التحضيرات لعقد دوراتها السنوية، نقرأ تصريحات الزعماء والمسئولين، ونستعد بالاطلاع على التقارير الاقتصادية والاستراتيجيات المعلنة، وندقق فى مواقف المستشارين الذين يقرر الرؤساء اصطحابهم إلى القمة، ونهتم بأعداد أعضاء الوفود، ونتابع كتابات كبار الصحفيين العالميين المشهود لهم بالخبرة والتجربة الطويلة فى شئون الاقتصاد الدولى والعلاقات بين الدول العظمى. كانت دورات قمة الثمانية درسا سنويا نجدد به معلوماتنا ونصقل الأدوات التى نستخدمها عندما تنعقد النية أو تتوفر الرغبة لتحليل سياسات دولية أو الحكم على مسارات الرأسمالية والعولمة واقتصاد السوق وتوازنات القوة.
هذه المرة اختلفت استعداداتنا. لم نقرأ على غير عادتنا لا بسبب تقصير من جانبنا، ولكن لأننا لم نجد ما يستحق القراءة. ولم نعقد ندوات أو حلقات النقاش كما كنا نفعل عشية كل دورة من دورات انعقاد القمة، لا لصعوبة غير عادية فى عقدها ولكن لأننا لم نجد موضوعا يستحق التركيز عليه والاجتماع من أجل مناقشته وسبر أغواره، ولم نجد عددا كافيا مستعدا للتضحية بساعة أو أكثر لمناقشة التوقعات من قمة غير ذات موضوع.
ولم نكن ظالمين للقمة. فقد خرج أوباما من القمة ليعلن أن جماعة الثمانية أنهت دورها وفقدت مع انتهائه سبب وجودها وحان أوان النظر فى أسلوب جديد لتوجيه اقتصاد العالم وجماعة مختلفة تتولى القيادة. ولم نكن مندفعين فى حكمنا على القمة قبل انعقادها فقد سبقنا لولا دى سيلفا رئيس البرازيل عندما قال فى فرنسا وهو فى طريقه إلى القمة إن مجموعة الثمانية لم يعد يوجد سبب يبرر وجودها.
كانت قمة لاكيلا كاشفة أكثر من أى قمة عقدتها مجموعة الثمانية منذ سنوات عديدة. كشفت حقيقة أن المجموعة لا تفى بوعودها التى تقطعها على نفسها فى بياناتها الختامية وتصريحات أعضائها. لم يظهر على حكومة إيطاليا أى حرج يكون قد نتج عن استضافتها القمة رغم أنها الدولة التى قصرت أكثر من أى دولة صناعية أخرى فى تقديم المعونة التى تقررت فى قمم سابقة.
ففى هذه القمم قررت المجموعة العمل على تخفيض معاناة الشعوب الأفريقية وتعويضها عن الأضرار التى تحل بها بسبب سياسات الحماية التى تمارسها دول الاتحاد الأوروبى وبخاصة فرنسا وتمارسها أيضا الولايات المتحدة. وفى تقرير نشرته منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية قبل انعقاد قمة لاكيلا ــ أعلنت المنظمة أن الدول الغنية أخفقت فى تدبير مبلغ 23 مليار دولار للوصول بالمعونة الدولية إلى مبلغ الخمسين مليارا الذى تعهدت به المجموعة.
والمعروف أن إيطاليا قررت تخفيض 56٪ من نصيبها فى المعونة دون العودة إلى الدول الأعضاء فى المجموعة ودون الاعتذار للدول النامية التى تلقت وعودا بالمعونة وانتظرت الوفاء بها. وتردد قبل انعقاد مؤتمر لاكيلا أن الحكومة الإيطالية بصدد إجراء مزيد من التخفيض بنسبة10٪. هكذا بدت إيطاليا قبل المؤتمر وخلال انعقاده الدولة الأشد تقصيرا فى تسديد المعونة المقررة. قصرت فرنسا بمبلغ1.249 مليون وألمانيا بمبلغ497 مليونا، والولايات المتحدة بمبلغ 263 مليونا واليابان بمبلغ 13مليونا، وقصرت بريطانيا بمبلغ 448 مليونا ولكنها وعدت المؤتمر بزيادة كبيرة فى العام القادم.
******
وعلى كل حال، لا أحد فى أفريقيا أو غيرها من الأقاليم التى تعانى مشكلات الجوع والفقر الشديد يصدق الأرقام التى تذيعها الدول الغنية. بدا هذا الأمر واضحا حين انضمت المؤسسات الدولية التى تعمل فى حقلى الغذاء والزراعة إلى منظمات وجمعيات المجتمع المدنى للدعوة لأن تكون قمة لاكيلا المنبر الذى توجه منه أصابع الاتهام إلى دول بعينها قصرت فى تنفيذ التعهدات التى التزمت بها القمم السابقة. لذلك تعمدت مصادر أمريكية وبريطانية الإعلان عن خطة جرى إعدادها قبل انعقاد القمة تهدف إلى إقامة صندوق بميزانية قدرها 15 بليون دولار لمحاربة الجوع فى الدول الفقيرة، على أن يجرى الإنفاق منه على امتداد السنوات الثلاث القادمة.
وبعد انتهاء جلسات القمة خرج أوباما ليعلن أمام الصحفيين أن المؤتمر قرر رفع ميزانية الصندوق إلى عشرين مليارا. كان الإعلان بالشكل الذى ظهر فيه إشارة مكشوفة إلى الرأى العام الأفريقى ليعرف أن الفضل يعود إلى الرئيس أوباما فى إقرار هذه الزيادة.
سيوفر الصندوق للدول المستفيدة مشروعات زراعية طويلة الأمد على أمل أن تثمر هذه المشروعات فى الأجل الطويل «أفريقيا جديدة» مصدرة للمحاصيل الغذائية! كان جليا أن إدارة أوباما تقف وراء هذا التطور، خاصة أن أوباما نفسه كان يدعو خلال الحملة الانتخابية إلى استبدال المعونة النقدية بالمشروعات الزراعية بهدف تشجيع المزارع الأفريقى على توفير الغذاء لنفسه بدلا من أن يحصل على معونة نقدية ليشترى بها غذاءه من الخارج.
كان مثيرا للانتباه العدد الكبير من الانتقادات للجماعة وسلوك أعضائها. تركزت الانتقادات على إخفاقها فى تفادى الأزمة المالية العالمية وضعف استجابتها لمشكلة الجوع المتفاقمة.
تردد أيضا فى الدوائر الدبلوماسية والإعلامية الحديث عن حالة فوضى وارتباك شديدين رافقت خطوات الإعداد للمؤتمر. كانت إيطاليا قد ألمحت إلى أنها تنوى عقد القمة فى جزيرة سردينيا، أحد أهم منتجعات إيطاليا وأرقاها، ثم قرر برلسكونى فجأة نقل الاجتماعات إلى مدينة لاكيلا الجميلة التى شوهها الزلزال وبقيت آثاره على مبانيها وطرقاتها. وقيل فى تبرير هذا القرار إن السنيور برليسكونى أراد للقمة أن تجتمع فى جو «مأساة» ليتشجع القادة الأغنياء وينظروا باهتمام وإنسانية إلى شعوب تعيسة تعانى جوعا أو عطشا أو دمارا.
******
أتصور أنه حين يتدنى تفكير أحد قادة مجموعة الأغنياء إلى هذا الحد، يصبح من الصعوبة بمكان على الأمم الفقيرة بل الشعوب كافة، أن تثق فى قادتها ومصائرها، أو تنتظر خيرا من مجموعة كانت تدعى القدرة على قيادة العالم. وأعتقد أنه من دواعى الحسرة، والسخرية أيضا، وكلاهما متوفر فى قطاعات عديدة فى الرأى العام فى عواصم كثيرة، معرفة أن هذه القيادات السياسية كانت هى ذاتها أحد أهم أسباب الفوضى الاقتصادية التى خربت النظام الرأسمالى وأحدثت أزمة عالمية، وأن هذه القيادات ذهبت إلى لاكيلا واجتمعت ورحلت دون أن تضع خطة أو مشروع خطة مشتركة للتعامل مع الأزمة المالية العالمية، ولا أقول خطة أو مشروع خطة مشتركة يتفادى بها العالم تكرار هذه الأزمة مستقبلا.
وتتعمق الحسرة، والسخرية أيضا، عندما يوافق زعماء القمة على مناقشة قضايا القيم وسخونة الجو والفقر وانتشار الأسلحة النووية وقضايا الإرهاب فى الشرق الأوسط، فى ضيافة دولة يتفاخر رئيس وزرائها بفضائحه الأخلاقية ولا يخجل من تراكم الاتهامات ضده بالفساد والرشوة وتلاعبه بالقوانين لمنع محاكمته أمام القضاء. بهذه الموافقة الجماعية، يقول القادة للشعوب، هذه قدوتكم، هكذا يجب أن يكون سلوك قادتكم. لذلك كان مثيرا لسخرية أشد أن يتوجه الرئيس الأمريكى أوباما من إيطاليا حيث نموذج الحكم الرشيد متوجها إلى غانا برسالة تبشير يعظ فيها حكام أفريقيا العالم النامى بالابتعاد عن الفساد وسوء السلوك.
******
تفاديا لحسرة اشتدت وسخرية ازدادت كان يجب على أوباما أن يلقى بالعظة نفسها فى لاكيلا ليستيقظ الكبار ويصبحوا قدوة لحكام آخرين قبل أن يخص حكام أفريقيا وشعوبها بدروس عن الخير والشرف. وكان جديرا به أن يأخذ بنصيحة جوردون براون ويعلن عدم احترام إيطاليا لعهودها التى قطعتها على نفسها فى القمم الماضية، ويطلب منها ومن غيرها من الدول الأوروبية التوقف عن ممارسة التمييز العنصرى والدينى ضد الملونين و«الآخرين»أمثاله. كان جديرا به أن يفعل هذا قبل أن يحط فى أكرا ويطالب الدول المعدمة باحترام العهود والالتزامات.