نشرت مجلة The Economist مقالا اشترك فى إعداده فريق تحرير المجلة، فسروا فيه أسباب اختلاف القيم من بلد لأخرى ومن جيل لآخر بالاستناد إلى نظرية عالم الاجتماع السياسى، رونالد إنجلهارت. كما أورد الفريق تأثير اختلاف القيم فى إثارة العديد من الصراعات التى نشهدها اليوم، مع الإشارة إلى عدم الاكتفاء به كسبب رئيسى لنشوب الحرب بل هو ذريعة ليس أكثر من ذلك.. نعرض من المقال ما يلى.
بداية، أشار فريق تحرير المجلة فى مستهل المقال، إلى أن أكثر من 40٪ من سكان العالم عاشوا فى فقر مدقع فى عام 1981، تزامنا مع تسارع النمو الاقتصادى فى بعض البلدان النامية. فى ضوء الجملة السابقة، نظم عالم الاجتماع السياسى الأمريكى، رونالد إنجلهارت، الأستاذ فى جامعة ميشيجان، فريق مسح عالمى لاختبار مدى صحة النظرية القائلة بأنه مع هروب الفلاحين من الفقر، يبدءون فى التفكير والتصرف بشكل مختلف، كما فعل الناس فى الماضى عندما انضموا إلى الطبقة الوسطى.
استنادا إلى نظرية إنجلهارت بعنوان «تغيير القيم بين الأجيال»، ظهر مشروع مسح القيم العالمى (world values survey)، الذى يعد أكبر شبكة بحث اجتماعى فى العالم. يخرج باحثو المشروع كل خمس سنوات أو نحو ذلك فى مقابلات ميدانية للوقوف على معايير تغيير القيم لدى الأفراد. إذ أيدت نتائج آخر إحصاء لعامى 2017ــ2022، الذى أجرى على 130 ألف شخص فى 90 دولة فكرة أن القيم الأساسية تميل إلى التقارب مع زيادة ثراء الناس. من الضرورى بمكان، الإشارة إلى أن اختلاف القيم بين الأفراد فى أجزاء مختلفة من العالم آخذة فى الاتساع.
جادل إنجلهارت بأن انعدام الأمن هو السبب الجذرى لاختلاف قيم الأفراد وترتيبهم للأولويات. إذ يؤكد أنه فى عالم غير آمن يتعرض فيه الأطفال للخطر بسبب المرض والمحاصيل للضرر بسبب الجفاف بين عشية وضحاها، غالبا ما تكون الأسرة هى خط الدفاع الوحيد ضد الكارثة، فى حين أن الكنيسة أو المسجد أو المعبد يقتصر دورها على تقديم العزاء أو التفسير. ومع الازدهار الاقتصادى يتراجع الشعور بانعدام الأمن فى بيئة أكثر استقرارا، ليبدأ الأفراد فى التفكير فى أنفسهم أكثر وتبنى قيم ما بعد المادية (مثل الديمقراطية). للإيضاح، قبل عقدين من الزمن، أفادت دراسة بحثية أن مجموعة من البلدان جمعت بين قيمة القناعة الدينية وقيم دعم الفردية والتعبير عن الذات، فخلقت نوعا هجينا من القيم التقليدية والحديثة شملت تلك المجموعة أمريكا وأيرلندا وبعض دول أمريكا اللاتينية، مثل فنزويلا. بينما أظهرت العديد من الدول المنتمية للأرثوذكسية (مثل روسيا ورومانيا) العكس: انتشار قيم «قبلية» أو جماعية أكثر من القيم الدينية، فكانوا قوميين عرقيين غير متدينين.
فى العصر الحالى، وجد استطلاع مسح القيم العالمى أن البلدان العلمانية والداعمة لحقوق الفرد تتغير بشكل أسرع وتصبح أكثر علمانية، أما البلدان الأكثر تقليدية وعشائرية فيتغيرون بوتيرة أبطأ وأحيانا يميلون إلى الإيمان بالقيم التقليدية أكثر.
تثير تلك النتائج ثلاثة أسئلة أخرى. أولا، إلى متى يمكن أن تستمر هذه الفجوة بين الدول فى الاتساع؟ وهل يمكن للأوروبيين والأمريكيين أن يستمروا حقا فى أن يصبحوا أكثر فردية وعلمانية؟ يقول كريستيان ويلزيل، الأستاذ فى جامعة لوفانا فى لونبورج بألمانيا: «يستمر الناس فى سؤالى عما إذا كان هناك حد». «لكنى لم أرَ أى علامة حتى الآن». كما بحث الدكتور كريستيان ويلزيل فى بيانات wvs «مسح القيم العالمى» حسب الفئة العمرية، فوجد أنه فى كل منطقة سواء فى أوروبا أو أمريكا يصبح كل جيل أكثر فردية وعلمانية من الجيل السابق.
تتسع الفجوة فى أوروبا بين الشباب وكبار السن أكثر من تلك الموجودة فى الدول الإسلامية أو الأرثوذكسية. فالشباب أكثر ميلا عن كبار السن للتغيير والاتجاه إلى قيم حديثة. هذا يعنى أن الاتجاه إلى قيم التعبير عن الذات سيستمر فى الجيل القادم. أما فى أمريكا، فهناك فجوة فى القيم بين المناطق الأكثر تدينا والأكثر علمانية، وهو ما قد يشير من الناحية النظرية إلى أن المناطق الدينية (فى الجنوب والغرب الأوسط) قد لا تشارك فى الانجراف نحو العلمانية، لكن حتى هذا يبدو خاطئا. لأن الفجوة بين الدول الأكثر تدينا والأقل تدينا لم تتغير منذ عام 1981. ومهما كان السبب وراء سياسة أمريكا المستقطبة بشكل غير عادى، فهى ليست ــ كما يقترح مسح القيم العالمى ــ نتيجة لتحول جوهرى فى ما يؤمن به الناس فى أجزاء مختلفة من العالم.
ثانيا، ما هى التداعيات السياسية والجيوسياسية؟ بمعنى أشمل، هناك ارتباط وثيق بين القيم والسياسة، أى إن القيم التقليدية أكثر ارتباطا بالأنظمة الاستبدادية، إذ تجسد أنظمة الصوت الواحد للفرد الواحد القيم الفردية. لذا، ليس من قبيل المصادفة أنه خلال العقد الماضى كان أداء الشعبويين الاستبداديين جيدا فى منطقتين من المناطق التى حدث فيها تباطؤ أو انعكاس للقيم العلمانية العقلانية: الدول الأرثوذكسية (مثل روسيا وبيلاروسيا) وأمريكا اللاتينية (مثل البرازيل ونيكاراجوا، فنزويلا). بالتالى، انخفض دعم الديمقراطية أيضا فى الدول الأرثوذكسية وأمريكا اللاتينية والإسلامية، وفقا لقياس نسبة السكان الذين قالوا إنهم يعتقدون أنه من الجيد أن يكون لديك زعيم قوى فلا تضطر إلى الاهتمام بالبرلمان أو الانتخابات.
يمكن طرح نقطة مماثلة حول العلاقة بين القيم والجغرافيا السياسية. يبدو أن النزاعات الدولية حول القيم آخذة فى الانتشار. بالكاد يمر يوم دون اشتباكات بين الحكومات الغربية وغير الغربية حول حقوق المثليين والمثليات ومزدوجى الميل الجنسى ومغايرى الهوية الجنسانية. والدليل على ما سبق انتقاد الرئيس جو بايدن تقديم أوغندا لقانون صارم ضد المثليين فى وقت سابق من هذا العام، ردت رئيسة البرلمان الأوغندى، أنيتا أنيت بقولها: «لن يأتى العالم الغربى ليحكم أوغندا». وعندما هدد رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، بمنع طلب السويد للانضمام إلى الناتو لأن رجلا فى السويد أحرق صفحات من القرآن، كان يناشد المعتقدات الدينية القوية للأتراك. لكن بالنسبة للعديد من السويديين كان لهذا الرجل كل الحق فى حرية التعبير، طالما أنه يطيع القانون.
كما تتخلل المنافسة بين القوى العظمى الخلافات حول القيم ــ مثلما يحدث الآن بين أمريكا والصين. يشتكى القادة الصينيون دائما من عدم وجود أشياء مثل «ما يسمى بالقيم العالمية للغرب» (كما يقول الرئيس الصينى شى جين بينج)، وأن مناشدات الحكومة الأمريكية لمثل هذه القيم هى مجرد ستار من الدخان ونوع جديد من الإمبريالية. وتصف ديلما روسيف، الرئيسة السابقة للبرازيل، الليبرالية الغربية بـ«نظام القيم الإلزامى».
ومع ذلك، فمن المؤكد أن العديد من هذه الصراعات كانت ستحدث بغض النظر عن اختلاف الدول حول القيم. فمثلا، كانت الصين ستتحدى أمريكا لأسباب استراتيجية وتكنولوجية. وربما تحاول تركيا منع السويد من الحصول على عضوية الناتو لانتزاع تنازلات منه. بينما يزعم الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أنه غزا أوكرانيا لأن هذا البلد، الذى كان يوما جزءا لا يتجزأ من العالم الأرثوذكسى، يؤمن بالفكر الأوروبى الذى (يعتقد بوتين) أنه يهدد روسيا. لكن لدى بوتين أسباب عديدة لقراره هذا. معنى الحديث هذا أن الاختلافات فى القيم ليست مصطنعة لكنها أيضا ليست سببا حاسما للصراع. إذ تعتبر الحكومات الاستبدادية «القيم» ذريعة للحرب وكذلك مجموعة من المعتقدات.
ثالثا، ماذا يعنى كل هذا بالنسبة للجدل حول «القيم العالمية»؟ يشير المسح العالمى للقيم إلى أن القيم العلمانية والليبرالية ليست أكثر عالمية من القيم الدينية والسلطوية. اختصارا لما سبق يتضح أن مجموعتى القيم اللتين تقعان على طرفى النقيض يتعامل معهما الناس حسب ظروفهم، سواء أكانت آمنة أم غير آمنة، أى إن عالمية القيم ليست مشروطة بتاريخ الدولة أو ثقافتها السياسية، بل بحال البلاد من ناحية الثراء والأمن.
كقاعدة عامة، مع انتشار الرخاء، وارتفاع متوسط العمر المتوقع، وانخفاض معدلات الخصوبة، وارتفاع جودة التعليم يميل الناس إلى التحرك نحو العلمانية / العقلانية. يصف السيد ويلزيل هذا على أنه تحول فى طريقة التفكير من «التركيز على الوقاية» (حيث يكون الشاغل الرئيسى للناس هو منع الضرر والخسارة لأنفسهم ولعائلاتهم) إلى ما يسميه «التركيز على التطوير» (الذى يسعى الناس بموجبه إلى التعبير عن الذات وحرية اختيار كيفية عيش حياتهم). جوهر القول، إنه لا تزال طرق التفكير التقليدية قائمة، أى ارتباط القيم بالنمو الاقتصادى للدولة. فى الواقع، للأمن تأثير أيضا على قيم الناس لا يختفى. إذ تميل القيم الدينية والاستبدادية ببطء إلى فقدان بعض جاذبيتها بينما تحقق القيم العلمانية والليبرالية مكاسب. وتدور معركة القيم بين القطبين التقليدى والحديث.
ترجمة وتحرير: وفاء هانى عمر
النص الأصلى