أقابل كثيرين يشتكون من الإنهاك أو الكسل، ومن مزاج غير معتدل، ومن تدهور القدرة على التركيز واستعادة المعلومات، ومن الصعوبة المتزايدة فى مواجهة الكوارث ومشكلات الحياة اليومية. وقابلت أصدقاء يشتكون من معارف وأصحاب وأقارب تنحدر أخلاقياتهم وسلوكياتهم بمعدلات تثير الدهشة وغالبا الشفقة.
هؤلاء الأصدقاء يسألون السؤال نفسه: هل من عقاقير أو مستحضرات كيماوية لعلاج هذه الحالات، خاصة تدهور الأخلاق أو منع تدهورها بعد أن فشلنا كطبقة حاكمة ومجتمع شاخ ونظام تعليم تهالك ودعاة تحولوا نجوما وفضائيات اختارت المتاجرة بالدين والقيم؟.. لسنا وحدنا على كل حال الذين نسأل هذا السؤال. إذ يدور حوار ساخن فى أوساط أكاديمية غربية حول الموضوع نفسه وبالتحديد حول مسألة العقاقير المنشطة وجوانبها الأخلاقية واحتمالات استخداماتها المستقبلية.
******
لم أكن أعرف أن علماء عديدين فى الغرب يدافعون عن تناول الرياضيين منشطات بهدف الفوز فى المباريات وتحقيق أرقام قياسية جديدة. قرأت لأحدهم مقالا يتهم فيه الموقف المعارض لتناول هذه المنشطات بأنه يحتوى على قدر غير بسيط من النفاق.
ويتساءل «كيف نبرر أننا نوفر للرياضى فرص التدريب فى أجواء ساخنة ورطبة أو باردة وممطرة وفى الصحراء والمرتفعات، ونحثه على الركض مرتديا رداء معينا ونغدق عليه أموالا طائلة وفى الوقت نفسه نعاقبه على تناول قرص دواء يؤدى الغرض نفسه وهو الفوز؟». ويستمر الحوار، فريق يؤيد تناول المكتئب أو حتى الفرد الباحث عن البهجة والسعادة لنوع معتدل من المخدرات، وفريق يرفض بذرائع شتى ولكنه يشجع هذا الفرد على تناول حبات البروزاك باعتباره أشهر المنشطات فى صناعة الدواء. هناك أيضا المؤيدون لتطوير عقاقير تفيد فى وقف تدهور الذاكرة بعد أن امتدت الظاهرة لتشمل أفرادا فى الثلاثين والأربعين من العمر. هؤلاء يدعون إلى تشجيع الشاكين من تدهور ذاكرتهم على تناول عقاقير، مثل ريتالين، تحد من هذا التدهور أو تضيف إلى قوة التركيز وسرعة الإدراك. ويطالب آخرون بأدوية تنشط الأعصاب وتجعلها أقوى على تحمل المآسى مثل دواء أديرال وبروفيجيل وأخرى يساعد تناولها على «نسيان» أحداث أو أشخاص أو قضايا بعينها.
ولكن هل فكر هؤلاء فى أن الاستجابة لهم تتناقض مع مبدأ المساواة باعتبار أن القادرين فقط على دفع ثمن هذه المنشطات هم الذين سيحققون الفوز فى المباريات ويعيشون فى سعادة وبهجة ويتمتعون بذاكرة قوية تساعدهم على الحفظ والتعلم وبأعصاب أقوى لزوم مواجهة الكوارث والحوادث؟.. بمعنى آخر، يمكن أن تتسبب هذه المنشطات فى توسيع الفجوة داخل المجتمعات. وقد جاء الرد صارخا من أحد العلماء فى كتاب بعنوان «قضيتى ضد الكمال»، حيث يتساءل البروفيسور ساندال Sandal، وما الضرر فى أن تتسبب عقاقير المنشطات فى تعميق عدم المساواة؟.. ألا يمكن أن ينشط العلماء نتيجة هذا التصعيد فى اللامساواة لاختراع عقار يفيد فى تنشيط الحافز لتحقيق المساواة؟ أقول إن رد ساندال جاء صارخا لسببين. أولهما أنه يصدم «الواقعيين» من المفكرين وذوى الخيال المعتدل.. ولأننى أعرف أنه سيكون صعبا إقناع بعض الناس بأنه إذا استمرت أوضاع المجتمع فى التدهور فقد نضطر عما قريب إلى اختراع دواء يجعلنا أقل ظلما وإهمالا للمحرومين وأقل تطرفا وعنصرية فى التعامل مع الأقليات والمخالفين لنا فى الرأى. وثانيهما أنه يفتح الباب من جديد أمام قضية عويصة وخطيرة، وهى اختراع عقاقير تتدخل فى تعديل أخلاق البشر وسلوكياتهم وربما مشاعرهم.
******
يجدر أن نتوقف هنا، فالقضية تستحق مناقشة مستفيضة ومنفصلة، ولكن قبل أن نفترق أحب أن أشير إلى نقطة بالغة الخطورة ما زالت تستحوذ على اهتمام المحاورين فى الخارج وشرائح بعينها فى المجتمع المصرى. يتردد كثيرا أن تشجيع تناول المنشطات بجميع أنواعها تدخل سافر من المخلوق فى إرادة الخالق، وأن شركات الأدوية وعلماء الكيمياء بانشغالهم باختراع المنشطات الكيماوية والترويج لها إنما يقومون بعمل هو من صميم شئون الخالق. «هؤلاء يسعون إلى «خلق» عوالم جديدة بمواصفات جديدة». ويرد آخرون «ما المانع أن يكون أبناؤنا وبناتنا أطول قامة، ومحبين للموسيقى وعاشقين للجمال وأخلاقيات الجمال، ما المانع أن يكونوا أسرع فى السباحة والركض من أقرانهم ومنا، ما المانع أن يكون ميلهم لحب الآخرين أقوى من ميلهم للكراهية؟».
******
المانع الأكبر، بين موانع كثيرة تستحق المناقشة، هو الخشية من أن يتسرب إلى بعض العلماء وشركات الأدوية رغبة أو حافز الوصول إلى الكمال والتورط فى وظائف الخلق أو إعادة الخلق.