«لا أحد فوق القانون»، تتكرر هذه العبارة فى الولايات المتحدة دائما عند توافر شكوك فى ارتكاب أحد كبار المسئولين أو أفراد عائلاتهم مخالفات أو جرائم يحاسب عليها القانون.
ويعج التاريخ الأمريكى بالكثير من أعضاء مجلسى النواب والشيوخ ممن تم إدانتهم فى جرائم جنائية وعليه قضوا سنوات وراء القضبان.
كان الجنرال الشهير ديفيد بتريوس، قائد القوات الأميركية فى العراق وأفغانستان، والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية CIA، أحد آخر كبار هؤلاء المسئولين الذين تم محاكمتهم وإدانتهم عام 2015، حين حكم عليه قاضٍ فيدرالى بالإدانة لتقديمه معلومات سرية إلى صديقته الحميمة، وأصدر القاضى حكما بمراقبته لمدة عامين، بالإضافة إلى غرامة قدرها 100 ألف دولار.
إلا أن المبدأ القانونى وسيادة القانون نفسها تخضع لاختبار عسير على يد الرئيس السابق دونالد ترامب. فمع زيادة المتاعب القانونية التى يواجهها ترامب، أصبح سيناريو محاكمة الرئيس السابق، والمرشح المحتمل للرئاسة فى انتخابات 2024، تشغل بال الكثير من الشعب الأمريكى.
• • •
يصعب على الكثير ممن ينتمون للحزب الجمهورى، خاصة من يدينون بالولاء المطلق لترامب، وتقدر أعدادهم بعشرات الملايين من الناخبات والناخبين الذين لا يزالون يؤمنون بأنه فاز بانتخابات 2020، لكنها سُرقت منه، تخيل وضع ترامب فى قفص الاتهام. لكن فى الوقت ذاته، لو ثبت ارتكاب ترامب مخالفات قانونية تستوجب التحرك ضده، لا يمكن إلا المخاطرة واعتبار ترامب مواطنا عاديا لا يتمتع بأى حصانة، ومن ثم إخضاعه لإجراءات منظومة العدالة الأمريكية المستقلة.
«لقد حان الوقت لوضع نهاية لهذه التحقيقات وأى تحقيقات أخرى تتعلق بهذه القضية، تحقيقات ووترجيت لا تستحق المزيد من الوقت». كانت تلك كلمات الرئيس ريتشارد نيكسون قبل إعلانه الاستقالة ومغادرة البيت الأبيض قبل بدء التصويت على عزله. ودفع الكشف عن تسجيلات تتضمن أدلة دامغة سربها أحد المسئولين بالبيت الأبيض وتتضمن إدانة للرئيس نقطة فاصلة فى موقف الحزب الجمهورى. وكان نيكسون قد خالف القانون بتوجيهه أمرا لمساعديه بضرورة التغطية وعرقلة جهود الـ إف بى آى، والـ سى آى إيه، فى التحقيقات المتعلقة بتجسسه على الحزب الديمقراطى.
عقب ذلك زار ثلاثة من كبار قادة الحزب الجمهورى البيت الأبيض، وهم النائب جون رودس والسيناتور هيو سكوت والسيناتور جولد ووتر، بهدف إخبار الرئيس نيكسون أن الأوضاع فى مجلسى الكونجرس غير جيدة على الإطلاق وتتجه للأسوأ.
فهم الرئيس نيكسون أن الحزب الجمهورى سيتجه للتخلى عنه، وسيختار التصويت لإقالته، واضطر للاستقالة. لكن الأمر يختلف تماما اليوم بسبب طبيعة شخصية دونالد ترامب الذى نجح منذ ظهوره على الساحة السياسية الأمريكية عام 2015 فى تحصين نفسه من أى أخطاء أو سقطات أخلاقية أو سياسية.
• • •
تتصاعد الضغوط على ميريك جارلاند المدعى العام الأمريكى (وزير العدل) لتوجيه اتهامات لدونالد ترامب فى قضية عرقلة عمل الكونجرس بدعوة أنصاره للتدخل لمنع التصديق على نتائج الانتخابات فى السادس من يناير 2021، ومحاولاته قلب نتائج الانتخابات بطلبه غير الشرعى من مسئولى الانتخابات فى ولاية جورجيا تغيير النتائج النهائية، والتى أقرت بفوز منافسه جو بايدن.
وإضافة لذلك هناك التحقيقات الجارية عقب اقتحام وتفتيش منزل ترامب الصيفى فى ولاية فلوريدا والعثور على صناديق تحتوى ملفات ووثائق سرية لم يكن لها أن تخرج من البيت الأبيض.
• • •
فى مؤتمر صحفى قبل أسبوع، أكد جارلاند أنه «لا يوجد شخص فوق القانون فى هذا البلد»، إلا أنه وفى ظل غياب سوابق تاريخية بمحاكمة أى رئيس أمريكى، حالٍ أو سابق، على جريمة فيدرالية، ناهينا عن إدانته، إضافة لرغبة ترامب فى الترشح من جديد لمنصب الرئاسة، يُصعب بشدة من مهمة وزير العدل.
وسيدفع وضع الرئيس المقبل المحتمل فى قفص الاتهام قبل الانتخابات إلى المخاطرة بنشوب أعمال عنف على نطاق واسع يُسهل منه امتلاك الملايين من الشعب الأمريكى لمختلف أنواع الأسلحة النارية.
خلال بث جلسات الاستماع الخاصة بتحقيقات 6 يناير حيث اقتحم أنصار ترامب الكونجرس، استمع الشعب الأمريكى إلى شهادات تجرم ترامب، وعددا من كبار مساعديه. واعترف بعض مساعدى ترامب بالضلوع فى مؤامرة لتخريب نتائج الانتخابات، وتم إبلاغ ترامب طبقا لهؤلاء الشهود أن خطته غير دستورية وأنه قد سمع ذلك بوضوح.
• • •
كما قال الفيلسوف الأمريكى رالف والدو إيمرسون فى بداية القرن التاسع عشر، «عندما تضرب ملكا، يجب أن تقتله»، وهى نصيحة تجاهلها الحزب الديمقراطى تماما مرتين فى محاولتيه الفاشلتين لمحاكمة ترامب برلمانيا وعزله، وهو ما كان له نتائج عكسية. ويدرك خبراء الشأن الأمريكى أنه لم تكن هناك أى فرصة أبدا لعزل ترامب من منصبه، وبدلا من إلحاق الأذى به سياسيا، ارتفعت نسب شعبيته إلى أفضل مستوياتها. يكرر ترامب مقولة إنه «يقاتل بيروقراطية ونخبة واشنطن، وهم يكرهوننى بسبب ذلك».
من هنا تعد إجراءات مواجهة ترامب قانونيا مغامرة سياسية لا بد أن يقوم بها وزير العدل جارلاند فى نهاية المطاف، وسيكون لها نتائج زلزالية على الحياة السياسية الأمريكية الآن ومستقبلا. ولا بد أن يمتلك وزير العدل القرائن والدلائل الداعمة لتوجيه إدانات رسمية لترامب، فى الوقت الذى يجب عليه كذلك وعلى البيت الأبيض، إدخال الحسابات السياسية فى عملية اتخاذ القرار. ولابد أن يكون جارلاند شديد الوثوق من إدانة ترامب قبل أن يقدم أى لوائح اتهام. لائحة اتهام ترامب ستكون زلزالية، وستكون مخاطرة كبيرة جدا. لكن سيكون الخطر أكبر إذا تم استبعادها خوفا من تداعياتها.