هل تستعد الدول العربية وجامعتهم ومنظمة العالم الإسلامى لسيناريوهات متعددة لقرارات غير تقليدية قد تصدر عن الإدارة الأمريكية الجديدة؟ فليس من المستبعد أن يكون نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس هو أحد القرارات الدراماتيكية التى يتخذها الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب بعد تنصيبه رسميا فى العشرين من الشهر القادم. وكان ترامب، مثل كثيرين غيره من الرؤساء السابقين، تعهد خلال الحملة الانتخابية بنقل سفارة بلاده لدى إسرائيل للقدس حال وصوله للبيت الأبيض، وبالاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. وتقليديا غير الرؤساء الأمريكيون موقفهم من قضية نقل السفارة بعد وصولهم للحكم، وتاريخيا أتخذ البيت الأبيض موقفا مفاده أن نقل السفارة للقدس يعرقل الدور الأمريكى الراعى لعملية سلام الشرق الأوسط، ومن شأنه أيضا أن يؤثر سلبا على علاقات واشنطن بالعالمين العربى والإسلامى. إلا أن طبيعة التطورات الأخيرة التى شهدتها وتشهدها إسرائيل وأمريكا والدول العربية خلقت واقعا جديدا قد يسهل ويدفع ترامب لاتخاذ قرار لم يجرؤ عليه أى من رؤساء أمريكا السابقين.
***
أمريكيا: يمثل وصول ترامب لسدة الحكم علامة فارقة فى علاقاتها بإسرائيل، فالرئيس الجديد جاء من خارج منظومة السياسة التقليدية، وهو ما يسهل من تخلصه من قيود السياسية الأمريكية فى الشأن الداخلى والخارجى أيضا. وتظهر هوية مستشارى ترامب لشئون الصراع العربى الإسرائيلى نية واضحة للدخول بعلاقات واشنطن بإسرائيل منعطفا جديدا يتخطى كل ما سبقة من تحالف خاص لا مثيل له بين الدول. ديفيد فريدمان، المستشار الأول، محامى يهودى متشدد من نيويورك، أكد الشهر الماضى أن الرئيس المنتخب يعتزم الوفاء بتعهداته بنقل مقر السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، مؤكدا أن «مستوى التعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل سيكون أوثق وأقوى من أى وقت مضى». جيسون جرينبلات، المستشار الثانى، محامى يهودى شديد التدين، ذكر أيضا أن ترامب سينقل السفارة للقدس مؤكدا أن ترامب غير السياسيين التقليديين، لذا فهو سيفى بوعده. أما أهم مستشارى ترامب، ومديرة حملته الانتخابية، السيدة كيليان كونواى، فأكدت على تصميم ترامب على القيام بهذه الخطوة. ويسهل من مهمة ترامب تشريع قانون صدر عن الكونجرس الأمريكى عام 1995 بأغلبية كبيرة يقضى بنقل السفارة الأمريكية لمدينة القدس، ومنذ ذلك التاريخ يقوم الرؤساء الأمريكيون بتأجيل تنفيذ هذا القرار كل ستة أشهر بذريعة «حماية المصالح القومية الأمنية للولايات المتحدة». ولن يغامر أى من أعضاء الكونجرس اليوم بمعارضة هذه الخطوة نظرا للتكلفة الكبيرة لمثل هذا الموقف.
إسرائيليا: قبل أيام حضرت بعض جلسات منتدى سابان للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وخلال الجلسة الافتتاحية والذى ينظمه سنويا معهد بروكينجر بواشنطن، رد وزير الدفاع الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان على سؤال حول عملية السلام بين بلاده والفلسطينيين قائلا..«لا عملية.. ولا سلام» قاطعا الطريق أمام أى حديث عن مستقبل عملية سلام الشرق الأوسط. من ناحية أخرى توقع رئيس بلدية القدس نير بركات أن تسارع واشنطن تحت حكم ترامب بنقل السفارة للقدس. وتدرك القيادة الإسرائيلية أن ترامب يمثل فرصة نادرة لحسم موضوع السفارة بعد فشل جهودها السابقة مع رؤساء جمهوريين وديمقراطيين تقليديين. أما رئيس الوزراء نتانياهو فقد ذكر لبرنامج «60 دقيقة» يوم الأحد الماضى أن تحالف بلاده الجديد مع الدول العربية المعتدلة ضد الخطر الشيعى والخطر الإرهابى يوحى بتغيرات شديدة الأهمية قد يكون لها آثار على دفع الفلسطينيين للقبول بحل الدولتين القائم على دولتين لشعبين! موضحا أن هناك إمكانية لحسم الكثير من المسائل الخلافية الكبيرة فى عهد صديقه القديم ترامب. وتؤمن إسرائيل أنه إذا لم تنقل السفارة فى عهد ترامب، فلن تنقل للقدس فى أى مستقبل قريب.
عربيا: لا تتوقف جهود بعض الحكام العرب بضرورة استغلال الإدارة الأمريكية الجديدة لحالة الضعف العربى غير المسبوق، والانقسام والتشتت الفلسطينى من أجل إنهاء قضية فلسطين. ويستغل هؤلاء الحكام حقيقة أن العرب، نظما وشعوبا، مشغولين بدرجة كبيرة بشئونهم الداخلية الضيقة سواء كانت تلك تبعات الربيع العربى، أو تبعات ظهور وتمدد تنظيم «داعش»، وهو ما سمح بتلاشى الاهتمام الشعبى والرسمى بالشأن الفلسطينى أو حتى بمستقبل مدينة القدس. وينتظر أن تقود دول عربية معتدلة جهود الضغط على الفلسطينيين للقبول بالواقع الجديد. وتطالب تلك «الدول المعتدلة» بضرورة استغلال الضعف العربى الراهن لما يمثله من فرصة نادرة لمنح الفلسطينيين ما يشبه الدولة. ويمثل ما تعانيه السعودية فى واشنطن إثر تمرير قانون «جاستا» واقعا جديدا يؤثر بالسلب على أى مطالب أو رغبة عربية فى ردع واشنطن أو رفع تكلفة نقل سفارتها للقدس. البعض توهم أن الدول العربية ستقطع علاقاتها مع أى دولة تنقل سفارتها للقدس، إلا أن حالة الوهن العربى تجعل من رد الفعل العربى العنيف مجرد أوهام.
***
تتكرر فى دهاليز واشنطن أقاويل عن عملية كبيرة لتوسعة مبنى القنصلية الأمريكية بالقدس، والبعض يرى أنه وبعد انتهاء التجديدات والتوسعات الجارية، يمكن عمليا أن يتم نقل السفارة الأمريكية من مدينة تل أبيب، أو على أقل تقدير نقل أغلبية العاملين فيها والبالغ عددهم 800 شخص لممارسة مهامهم من الموقع الجديد بقلب مدينة القدس الشريف. وهنا يطرح سؤال غير برىء نفسه: كيف سيكون رد الدول العربية الرسمى على نقل واشنطن سفارتها لدى إسرائيل من تل أبيب للقدس؟ هل سيتم التنديد شديد اللهجة، هل سيتم الاكتفاء بالإدانات الدولية والاعتراض أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن، هل سيتم استدعاء السفراء العرب من واشنطن، أم سيتم قطع العلاقات الدبلوماسية للدول العربية مع واشنطن؟