الجميع يتكلمون عن الذكاء الاصطناعي وأنه سيتغلغل في جميع مناحي الحياة ويغير الطريقة التي يسير بها العمل في الكثير من المجالات، واليوم نتكلم عن مجال يتميز بالبيروقراطية العتيدة والقدرة على تحليل آلاف المستندات للوصول لهدف منشود، هو مجال يعتمد على براعة التفكير وبلاغة اللفظ والقدرة على التأثير، اليوم نتكلم عن المجالات القانونية والقضائية وهل يمكن لبرمجيات الذكاء الاصطناعي النفاذ إلى ساحات القضاء أم أن هذا مازال بعيد المنال؟
المصاريف القانونية من مصاريف إجرائية وأتعاب محامين إلخ تقارب على تريليون دولار في السنة حسب مقال في مجلة فوربسالأمريكية. سوق بهذا الحجم يعتبر من الأسواق المغرية جداً لبرمجيات الذكاء الاصطناعي. في نفس هذا المقال من مجلة فوربس وجد المؤلف نقطة غاية في الذكاء وهي أن طريقة التفكير القانونية وطريقة عمل الذكاء الاصطناعي (بالأخص الفرع المسمى تعليم الآلة أو machine learning) بهما الكثير من التشابه. كلاهما يحاول تطبيق قوانين معينة على أوضاع جديدة، كلاهما يستخدم معلومات من الماضي لاستشراف المستقبل مثل المحامين الذين يحضرون جلسات قضايا ليست تابعة لهم من أجل التعلم ثم تطبيق ذلك على قضاياهم.
ما الذي تستطيعه برمجيات الذكاء الاصطناعي الآن أو في المستقبل القريب؟
برنامج الذكاء الاصطناعي يمكن أن يجمع معلومات عن شخص ما أو حدث معين عن طريق الانترنت بدقة ويرتب المعلومات ويقارن بينها لإظهار وجود معلومات متضاربة عن الشخص أو الحدث.
الكمبيوتر يمكنه الآن تحضير بعض المستندات مثل العقود وما شابه وملئها بالمعلومات المتاحة، هذه من الأمور السهلة وتستعملها بالفعلبعض الشركات. في المقابل تستطيع بعض البرمجيات مراجعة العقود والمستندات والوقوف على الأخطاء فيها. حالياً يراجع المحامون ومساعدوهم آلاف المستندات يومياً وهذا موضوع مرهق وممل حقيقةً، التعب والملل يؤديان إلى أخطاء أو إبطاء، الكمبيوتر لا يتعب ولا يمل لكن يجب أن يتم "تعليمه" جيداً.
يحاول الباحثون بناء برنامج يمكنه التنبؤ بالحكم القضائي عن طريق توفر معلومات معينة والأحكام السابقة في القضايا المشابهة وتاريخ أحكام كل قاض لأن هذا يساعد على التنبؤ بالحكم في قضية ما في وجود قاض معين، وهذا يساعد المحامين على معرفة المعلومات الواجب جمعها للوصول إلى حكم ما أو على الأقل الوصول لأفضل حكم ممكن. طبعاً هذه مهمة في غاية الصعوبة لأنها تعتمد على عوامل كثيرة قد لا تتوافر للبرنامج قبل الوقت الفعلي للجلسة.، مازال البحث العلمي يسعى حثيثاً للتقدم في هذا التطبيق.
طبعاً من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي هو دراسة قضية معينة وإيجاد الثغرات فيها، لكن ما زال أمامنا الكثير حتى نصل إلى نقطة مرضية هنا.
نجاح هذه التطبيقات التي قد يشبه بعضها قصص الخيال العلمي تعتمد على عدة عوامل يجب أن تتوفر لنجاحها، أسهلها هي تحويل المستندات إلى شكل تفهمه تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأصعبها هي الحصول على المعلومات التي سيتم بها "تعليم الآلة" وتدريبها، هذه المعلومات تشمل الأحكام في القضايا السابقة وأحكام القضاة المختلفين وشخصيات الجناة والثغرات في القضايا السابقة إلخ. تجميع تلك المعلومات ثم تغذيتها للكمبيوتر يجب أن يتم بحيادية تامة وألا يتم إغفال معلومات معينة على حساب معلومات أخرى.
مثلاً إذا كنا نريد تصميم برنامج يصدر أحكاماً معينة وغذينا هذا البرنامج بمعلومات عن جناة سابقين من لون أو جنسية معينة وأغفلنا جنسيات أخرى فسيصدر هذا البرنامج أحكاماً قاسية على الأشخاص من تلك الجنسية أو اللون وأحكاماً أخف على الجنسيات الأخرى لنفس الجرم. إذا لم نهتم بالمعلومات التي يتم تغذية الكمبيوتر بها فسنخلق برنامجاً عنصرياً.
أعتقد أن الوقت مناسب جداً عندنا في مصر أن تتضافر جهود كليات الحقوق مع كليات الهندسة وكليات علوم الحاسبات لإنتاج برمجيات مفيدة في عالم القانون والقضاء وإنشاء شركات ناشئة لتسويق تلك البرمجيات. سوق هذه البرمجيات مازال صغيراً وكلما تأخرنا كلما زادت حدة المنافسة.