فقراء الوقت - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فقراء الوقت

نشر فى : الأربعاء 16 يوليه 2014 - 8:55 ص | آخر تحديث : الأربعاء 16 يوليه 2014 - 9:01 ص

يغضب أصدقاء يكتبون مقالات لصفحات الرأى بالشروق، من أن المسئولين عنها كثيرا ما يذكرونهم بالموعد النهائى، الذى يجب أن يستلم فيه قسم الرأى مقالاتهم. الأكثرية تلتزم الموعد وأقلية اختارت المساومة. يعرف هؤلاء جميعا أن قسم الرأى يحدد موعدا نهائيا لأنه هو نفسه ملتزم بموعد نهائى مع قسم آخر فى الصحيفة يتولى مهمة تالية، وهذا القسم الآخر ملتزم بتسليم الصحيفة للمطبعة فى موعد نهائى، لا يملك حياله التسويف أو التردد.

•••

نعيش فى هذه المهنة، كما كنا نعيش خارجها وسنعيش بعدها، وسيف «الموعد النهائى» مسلط علينا. كنا على امتداد حياتنا المدرسية والجامعية نذاكر من أجل اللحاق بموعد نهائى تجرى فيه الامتحانات. كان أفضلنا هو التلميذ الذى يجيد وضع جداول للمذاكرة، يتضمن الواحد منها عشرات «المواعيد النهائية» التى يتعين عليه الانتهاء عندها من دراسة فصل فى كتاب أو مادة من المواد. حياة التلميذ مثل حياة كل البشر سلسلة من «مواعيد نهائية»، وهى نفسها حياة من حلقات متصلة من محاولات وجهود مكثفة للتحايل على هذه «المواعيد النهائية».

تخرجنا وفرحنا بالتخرج، ليس فقط لأنه يفتح لنا أبواب العمل والسفر، ولكن أيضا لأننا، عن قلة خبرة، تصورنا أنه سيحررنا من قيود عديدة ليس أقلها شأنا قيد الرقابة العائلية، ويرفع عنا قمع الوقت والتزامات الموعد النهائى. كان الظن أن التخرج يحمينا من قهر الموعد النهائى، ويحطم القيود التى فرضها لسنوات على حقنا كشبان فى الاستمتاع بملذات الحياة وكنوزها والغوص فى أسرارها وملامسة محرماتها والتعرف على مكنونها.

لم ندرك وقتها حقيقة أن الوقت كله، وليس بعضه وليس فقط أوله أو نهايته، محدود، بل وغير متجدد وغير قابل للاستبدال بنعم أخرى. لم ندرك كم هو طاغ وظالم وباتر حينا ورحيم وناعم وكريم حينا آخر. نضجنا، ومع النضج جاء الوعى بأن لكل مهمة نؤديها ومغامرة نقدم عليها وعلاقة عاطفية نمارسها موعدا نهائيا به تكتمل أو عنده تنفرط. لكل فكرة موعد نهائى لتنضج فتتحول إلى قرار أو يفوتها القطار، ولكل لحظة فى مسيرة تعارف موعد نهائى لتتحول إلى عاطفة والتزام أو تفقد بريقها فتتوقف المسيرة.

•••

راقبت سلوك من تعودوا على الاستهانة بالموعد النهائى. البعض متكبر بطبعه أو متمرد بطبيعته. البعض الآخر غير مبال أو مكترث. راجعت ما اتخذوه من قرارات وما أنتجوه إبداعا أو عملا تحت ضغط اللحظات الأخيرة من «الموعد النهائى»، ووصلت إلى نتائج سبقنى إليها أساتذة متخصصون، بعضهم يؤكد أن الأكثرية العظمى من هؤلاء الناس «المتباطئين» لا تجد فى انتظارها عند الوصول إلى «الموعد النهائى» خيارات متعددة لقرار ينوون اتخاذه. أكدت الدراسات، التى أجراها هؤلاء الأساتذة، أن حالة من الارتباك تستولى على تصرفات الأشخاص الذين وصلوا إلى الوقت النهائى أو تجاوزوه ولم ينتهوا من عملهم، وأن بعضهم يفقد السيطرة على أعصابه ويفلت منه زمام التحكم فى إرادته فيصدر عنه فى نهاية الأمر ما يجعله يندم بعض الوقت، وربما بقية حياته.

•••

ينبه المتخصصون إلى ضرورة التعامل مع الوقت باعتباره سلعة ينطبق عليها مفهوم الندرة. لم ندرك فى طفولتنا وسنوات شبابنا، أنه فى كل مرة اصطدمت رغباتنا وأعمالنا بالموعد النهائى لجأنا إلى «الاقتراض» من وقت آخر قادم، أى من المستقبل، حيث الوعاء الوحيد المتاح دائما للإقراض. لا مكان ولا زمان آخر يمكن اقتراض الوقت منه إلا المستقبل. رحنا نقترض منه غير واعين للصعوبات التى ستواجهنا عند تسديد هذه القروض.

كثيرا ما أجلنا عملا إلى الغد قبل أن نعرف أن «وقت الغد» أثمن من «وقت اليوم». نحن نسدد بالتوتر والقلق وغليان الأعصاب والمرض أحيانا فواتير زمن اقترضناه من المستقبل. اقترضنا وقتا من يوم الغد كان مخصصا لقرارات وأعمال أخرى. ما لم نعرفه ولعلنا نقدره الآن، هو أن تكرار عمليات التأجيل إلى وقت لاحق يجعل كافة قراراتنا باهظة التكلفة، يقول الدكتور Sendhil Mullainathan عالم الاقتصاد فى جامعة هارفارد، ومشترك معه الدكتور Eldar Shafir من جامعة برنستون أننا عندما نقترض من الغد، سيأتينا الغد ناقص وقت يعادل الوقت الذى اقترضناه اليوم. بمعنى آخر سيكون وقت الغد أغلى تكلفة من وقت اليوم. نستهين بالتأجيل إلى وقت لاحق، غير مدركين أن التكلفة ستكون باهظة تماما كما يحدث عندما نقترض مبلغا بشكل طارئ، فنسدده فى اليوم التالى للمرابين مضاعفا وبفائدة مرتفعة. فى الحالتين القرض مكلف للغاية إذا تعاقدنا عليه تحت ضغط الندرة، سواء ندرة الوقت أم ندرة المال.

•••

تثير هذه المناقشة أحيانا مسائل أخرى شديدة الأهمية، إحداها نعيش تفاصيلها هذه الأيام، ونختلف حولها كما اختلفنا ونختلف حول كل شىء آخر. يسأل البعض منا، أليس الأفضل لنا أن نأخذ فورا قرارات صعبة، تتعلق بمصير هذا البلد، من أن نؤجلها إلى غد أو إلى عام قادم. هناك، من حولنا دوليا وإقليميا، من يدرك جيدا أن «ندرة الوقت» فى ظروفنا الراهنة تتفوق فى خطورتها على «ندرة المال»، وأن من يريد «هلاك» مصر أو إبقاءها ضعيفة، فما عليه أكثر من إغراقها بالقروض، قروض ميسرة من الوقت وقروض عسيرة من المال يجرى تسديدها بفوائد خيالية، كتلك التى كان يفرضها المرابون على الفقراء، فقراء المال الذين هم فى الوقت نفسه فقراء وقت. هكذا دانت لهم الدول ومصر كانت إحداها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي