الأنبياء جميعا وعلى رأسهم نبى الإسلام محمد «عليهم السلام» جاءوا رحمة لأقوامهم فلم يكلفوهم ما لا يطيقون ويسروا عليهم ولم يعسروا وبشروا ولم ينفروا وجمعوا ولم يفرقوا فهذا رسول الله «ص» تعترض بعض زوجاته ضد زهده ويطلبن زيادة النفقة والتوسعة فرئيس الدولة وخاتم النبيين لا يوقد فى بيته نارا ولا يطبخ فيها لعدة أشهر.. وتمر الأيام والليالى وليس فى بيته سوى التمر والماء ويربط أحيانا الحجر على بطنه من الجوع.. ولكنه لم يطردهن إلى بيوت آبائهن ولم يضربهن أو يشتمهن ولكنه ذهب إلى «بيت أبيه» أى ربه ومولاه وهو المسجد.
رفض أن يعاتب زوجاته كثيرا.. اهتم بالأخطاء الاستراتيجية فنبههم إليها فى حياء وكأنه هو الذى أخطأ وأعرض عن أخطائهن «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» اقتدى بأخيه يوسف عليهما السلام حينما رفض أن يحرج أو يجرح إخوته رغم غدرهم به.. أبت أخلاقه الكريمة أن يفضح سرائرهم وجرائمهم فى حقه وحق أبيه يعقوب «فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ» وقال لهم بعد ذلك «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى» رفض أن يعايرهم بلحظات الضعف الإنسانى التى مرت بهم.. أو أن يفضح لحظات الحقد والحسد والأنانية التى مرت بهم من قبل.
آه يا يوسف الصديق.. كم أنت كريم ورحيم وودود وخلوق.. أراد إخوتك موتك وأنت تبغى حياتهم.. يظلمونك فتعدل معهم.. يبخسونك فتعدل معهم.. يسيئون إليك فتحسن إليهم.. يبيعونك بثمن بخس فتشتريهم وتكسب مودتهم وتستحى أن تذكرهم بجرمهم فتهتف بصفاء ونقاء «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ويستعيرها محمد «ص» منه فيصدح بها فى قومه الذين عذبوه وآذوه وشتموه «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.. اذهبوا فأنتم الطلقاء» لم يبطش بهم كما بطشوا، أو يعذبهم كما عذبوا، أو ينكل بهم كما نكلوا، لم يأخذهم بالسيف والسوط والجلاد، ولكنه ضمهم إلى صدره، واصطنعهم لدعوته، واتخذهم أحبابا وأولياء بالحلم والصفح.. ففى معركة حنين أطلق ستة آلاف أسير لأنه رضع فى قومهم وإكراما لشقيقته فى الرضاعة.
إنه لم يأت لإذلال الناس ولا قمع حرياتهم وكبتهم أو أخذهم بالشبهات.. فكيف يفعل ذلك وربه يناديه «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَىْءٌ».. وكيف لا يعفو عنهم ومولاه الحق يأمره «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» وهو الصفح الذى لا عتاب بعده.
ولذلك رفض أن يقتل حاطب بن أبى بلتعة الذى تجسس عليه وجيشه ذاكرا له حسناته السابقة «دعه يا عمر فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال اصنعوا ما شئتم قد غفرت لكم».. فالحسنة الكبيرة تكفر السيئة الكبيرة وتمحوها.. ونهر الحسنات تذوب وتندثر فيه الخطايا.. «وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث».
كما رفض أن يحقد على خالد بن الوليد الذى كان سببا فى هزيمة الصحابة فى أحد أو يطلب رأسه أو يأمر باغتياله.. ولكنه أراد هدايته وبره فكسب وده بكلمات قصيرة فى رسالة (قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير.. ومثلك لا يجهل الإسلام) فلم يدخله بالسيف ولا بالقهر.
وأسرت جيوش النبى ثمامة زعيم بنى حنيفة القوى.. فعرض عليه النبى الإسلام مرات فرفض فأطلق سراحه رغم ذلك.. فأسلم الرجل طواعية.. فالقهر والاستبداد لا يصنع حبا ولا دينا ولا وطنية ولا ولاءً.. ولكن يصنع كراهية ونفاقا وذلا وهوانا وضياعا.
ورأى الأعرابى يتبول فى المسجد النبوى فرفض أن يؤذيه أو يشتمه أو يوبخه أحد وقال: «ذروه يكمل بولته واسكبوا عليه دلوا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».. وعلم الأعرابى حرمة ذلك حتى قال الرجل من هول دهشته بحلم النبى: اللهم ارحمنى ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا.. فضحك النبى من ضيق أفقه فصحح له ملاطفا «لقد ضيقت واسعا يا أخا العرب».. ولو حدث ذلك عندنا لشتم وفضح وضرب وفسق وكفر.
وهذا عيسى نبى الله الرحيم المحسن «عليه السلام» يشتمه بعض السفهاء فيرد مبتسما: «الله محبة» وكأنه يقول: فلو أحببتم الله ما فعلتم ذلك.. ورغم سبكم وشتمكم فإنى أحبكم.. فمن أحب الله أحب خلقه وخاصة الصالحين.. فمن يزعم أنه يحب الله وهو يكره الناس أو يريد هلاكهم وموتهم وتفجيرهم أو تعذيبهم أو سجنهم أو قهرهم فهو كاذب.
وهذا رسول الله «ص» الذى يوحى إليه يقف بين أصحابه ليقول لهم: «أشيروا علىّ أيها الناس» ليطلب مشورتهم ورأيهم ولو استغنى أحد عن الشورى لكان النبى أولى بذلك.. وهو درس لكل من يريد أن يسوق شعبه بالقهر والسجن والكرباج ويحتكر الوطنية لمن أيده وتابعه فقط.
ويأخذ رأى سلمان الفارسى الذى يشير عليه بفكرة الخندق التى كانت سببا فى النصر رغم أن الفكرة وصاحبها من بلاد الفرس.. ويستشير «أم سلمة» ولا يستكفى أن يأخذ برأى امرأة وكان رأيا صائبا.
إنهم الأنبياء بحق الذين يريد البعض أن ننخلع من هديهم تارة بالتطرف الداعشى القاعدى أو بالتطرف العلمانى اللادينى.