كنت فى الصين صغيرا وفى الهند كنت أصغر. الآن وأنا فى هذا العمر المتقدم جدا صرت أتفهم دوافع سياسيين ودبلوماسيين كتبوا بغزارة عن سنوات أو شهور قضوها فى بلاد عتيقة. نقلوا لنا حكايات تحت بند الأساطير وتجارب تحت بند المغامرات وسلوكيات تحت بند الحكمة والتقاليد والمقدسات. الآن أستطيع أن أتفهم فكرة أصالة السياسة الخارجية فى بلاد بعينها مثل الهند والصين. بالأصالة أعنى جذور السياسة الخارجية الممتدة فى أعماق التاريخ وتراث الحكماء والفلاسفة وتجارب الماضى الامبراطورى وقسوة العلاقة مع رسل الغرب. لذلك وجدت نفسى أستعذب محاولاتى العديدة لإجراء مقارنة السياسة الخارجية للصين بسياسة الهند بينما أستصعب مقارنتها بسياسة أمريكا أو كندا أو أستراليا على سبيل المثال وليس الحصر.
بمعانٍ كثيرة أنظر إلى الهند كعملاق وإلى الصين كعملاق آخر. عملاقان يقفان معا الآن على الخط الأمامى لنظام دولى ينشأ وأقدامهما مغروسة فى نظام دولى بدأ رحلة الرحيل. كل منهما خارج لتوه من تجربة دسمة مع العولمة أفاد فيها واستفاد منها، كلاهما خرج مزودا برصيد هائل من عزم على التمسك بتراث حكماء الماضى والنية المتجددة للصمود فى وجه الغرب وكسر احتكاره، كلاهما حريص على الرغبة فى تغيير قواعد العمل الدولى كما ابتكرها وصاغها وفرضها على الآخرين العملاق الأمريكى.
الحديث يطول إذا اخترنا أوجه الشبه والاختلاف بين الدولتين الآسيويتين الأكبر والأقدم مدخلا لموضوعنا. بعض الأوجه متداخلة وبعضها خضع لتفسيرات متباينة، كثير منها يعود فى أصله وجذوره لقرون بلا عدد دقيق وأحدثها ما يزال يتفاعل بالعنف أحيانا، وجميعها يدفع بالبلدين فى اتجاه مستقبل لن يفلت العالم، وليس آسيا وحدها، من امتداداته وتأثيراته.
• • •
أثناء إقامتى فى الهند سمحت ظروفى بالتعرف على قطاع فى فئة الشباب من المهتمين بتراثهم الدينى ومتأثرين بتعليمهم العلمانى. بعضهم خريج جامعات محلية وآخرون عادوا من إنجلترا بشهادات أعلى مرتبة. أدين لهؤلاء ببعض المعلومات الهامة عن تاريخ الهنود وتقسيماتهم الطائفية والوظيفية، وكانت وقتها أقرب إلى التراتيب الدينية والمقدسة. أذهلنى وقتها اكتشاف أن للحب دورا يخترق كل هذه التقسيمات. لتفسير ما يقصدون اصطحبنى فريق منهم لزيارة معبد أثرى يعود تاريخه إلى بدايات الألفية الأولى، معبد ككل المعابد مخصص لعقيدة واحدة، عقيدة هذا المعبد: الحب.
• • •
أقمت أيضا بالصين ولم أبخل بوقت أو مال على إشباع هوايتى للرحلات والسفر. بدأت طبعا بسور الصين العظيم باعتبار أن جزءا منه لا يبعد كثيرا عن العاصمة بكين حيث محل إقامتى. أذهلنى، وإن بدرجة أقل، أن آثار الصين تكشف عن أن القتال بين أمراء الحرب المتمردين على سلطة إمبراطور البلاد وأعمال الدفاع عن الوطن ضد الغزاة من وسط آسيا كانت الشغل الشاغل لحكام الصين على امتداد القرون. هكذا بدت الصين لى أنا الغريب المقبل من الشرق الأوسط عبر الهند البلد الذى أقام للحب منذ آلاف السنين معبدا، أقول بدت لى الصين عبر مئات الأغانى والرسوم الوطنية لفتاة تقدم زهرة لجندى عائد لتوه من معركة، بدت لى البلد الذى يستحق أن يقيم للحرب معبدا. وبالفعل كان أول ما طرحه المسئول الصينى المكلف باستقبالنا فى محطة قطار بجنوب الصين، اقتراحا لأول موقع سياحى يجب أن أزوره. اقترح زيارة المتحف حيث يوجد هذا الحشد الهائل من تماثيل حجرية لجنود بالمئات فى زيهم الرسمى ودروعهم القتالية، دفنوا لقرون عديدة قبل أن يعاد لهم اعتبارهم فتزال عنهم الرمال والتراب. هناك رأيت شباب المدارس بنينا وبنات يقفون فى خشوع وهيبة أمام صفوف متراصة لتماثيل مئات المحاربين الأبطال.
• • •
الصين والهند تختلفان وتتشابهان كما لم تتشابه وتختلف دولتان فى التاريخ. ذكرت فى مقدمة هذا المقال التاريخ. الدولتان عاشتا فوق أغلب مساحتيهما الراهنة لآلاف السنين. أكاد أقارن عمق تاريخهما بعمق تاريخ كل من مصر وبلاد ما بين النهرين، تاريخ ضارب فى العمق. وكما تعرضت العراق ومصر لعديد الغزوات التى شكلت وأعادت تشكيل طبيعة وعقائد السكان فيهما كذلك تعرضت الصين والهند لغزوات أثرت فى منظومتى العقيدة والهوية داخل كل منهما.
• • •
تشابهتا فى دور البوذية فى تراث وعقائد البلدين. واختلفتا فى الحيز الذى يحتله الدين فى حياة وتاريخ البلدين وفى مفاهيم العبادة والتعبد. تتشابهان أو تتقاربان فى تعداد المسلمين ونسبتهم إلى العدد الكلى للسكان، وتتشابهان فى خوف حكامهما الحاليين من مسيرة التشدد الإسلامى وفى حدود وعى النخبة الحاكمة وبخاصة نخبة السياسة الخارجية بالأخطار والمشكلات المحتملة فى التعامل مع دول إسلامية فى الجوار. لاحظ مثلا أن باكستان، عدو الهند اللدود، تقع على أحد أهم طرق التجارة بين الصين والشرق الأوسط ولا يخفى إصرار بكين على التمسك بتحالفها مع باكستان رغم أن للأخيرة تحالفات مع الولايات المتحدة.
• • •
كلاهما، وأقصد الصين والهند، يعيشان منذ منتصف القرن الماضى على رافدين لعبا على الدوام ويلعبان حتى اليوم الدور الأكبر فى تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية لكلا البلدين. الرافدان هما القومية، بمعنى الوطنية، والمظلومية اللتين اصطبغت بهما وتأثرت سياسة البلدين تجاه العالم الخارجى، وتحديدا تجاه دول الغرب. وبالفعل التزمت نخبتا الحكم فى البلدين، سواء فى الحزب الشيوعى الصينى تحت قيادة ماو تسى تونج أو حزب المؤتمر الهندى تحت قيادة نهرو ثم إنديرا وسلالتها، هذا الخط. لم أقابل مسئولا هنديا أو صينيا لم يشر من بعيد أو قريب إلى ما تسبب فيه الاستعمار الغربى من خراب ودمار فى كلا الدولتين على امتداد ما يزيد على القرن كما فى الصين وما يزيد على قرون عديدة فى حال الهند. أظن أن الرافدين يقفان إلى يومنا هذا وراء العداء المنتصب لفكرة الانحياز للغرب. أظن أيضا، أو لا أستبعد، أن يكون بين أحلام الطبقتين الحاكمتين فى الدولتين وطموحاتهما حلم مشترك. يحلمان بيوم قريب يتحقق فيه الانتقام من الغرب والتغلب عليه وتعويض شعبيهما عما فاتهما أو ما تعطل أو تراجع وانحدر بسبب الاستعمار الغربى عموما والهيمنة الأمريكية بخاصة.
• • •
تشابهتا فى العدد الهائل من السكان واختلفتا عندما أعلن عن توقف النمو فى عدد سكان الصين وانتقال الهند لتحل محل الصين كأكبر دولة فى العالم. هناك جزع فى الصين لا شك فيه. جزع خشية انتقال ظاهرة تسرب الشيخوخة فى المجتمع الصينى كما تسربت فى مجتمعات أخرى وبخاصة اليابانى والإيطالى والألمانى. مجتمعات الشيوخ زاخرة بالحكمة ولكن بالحكمة وحدها لا تفوز الأمم. أخطأ قادة المرحلة الأولى فى نهوض الصين حين فرضوا تحديد النسل أو هكذا يزعم المؤرخون. اختلفتا فى أسلوب التعامل مع آفة الفقر. الصين قضت عليه والهند فشلت. تشابهتا وإن بدرجات متفاوتة فى حسن الاستفادة من موجة العولمة. نهضتا معا.
• • •
كان فى الهند دائما من راوده حلم التقاء الحضارتين مرة أخرى لصد غزوات الغرب وإجهاض هيمنته على العالم. أذكر أن نارندرا مودى أعلن أكثر من مرة عن اعتقاده أنه فى عالم «اللا مؤكد» يتعين على قادة الدولتين العمل معا على تعزيز تقدمهما وانجازاتهما. قيل أيضا إن مفكر الهند العظيم طاغور كان يحلم بلقاء الثقافتين الآسيويتين الأعظم لإحياء مآثر فضلهما على العالم. لا أحد ينكر دور البوذية فى صنع أسس الحضارة والثقافة فى كلا الدولتين وفى التوجهات الآسيوية لكلا الدولتين فى سياساتهما الخارجية.
• • •
تتشابهان فى الموقف من ضرورة تغيير قواعد العمل فى قيادة النظام الدولى إذا أراد الغرب توفير فرصة لسلام عالمى لا يقوم على تعاليم وقواعد الهيمنة. تدركان أنه بدون شباب آسيا، خاصة شباب الهند والصين، لن تفلح أمريكا فى قيادة عالم المستقبل، عالم الذكاء الاصطناعى والتقدم المنفلت غالبا فى استخدامات الآلة. لدى الغرب العلماء والمبتكرون وأغلبهم من كبار السن والمكانة الوظيفية، ولكن العالم الغربى، يفتقر إلى وفرة فى عنصر الشباب. هذه الوفرة هى المحرك الحقيقى والمتجدد للثورة التكنولوجية الزاحفة على الطريق. تدرك أمريكا هذه الحقيقة وصارت تتعامل على أساسها. لاحظنا مثلا أن نصيب شباب الهند من جملة التأشيرات الممنوحة من الولايات المتحدة لطلاب أجانب يتجاوز نسبة 47%. لاحظنا أيضا أن التعليمات صدرت بالحد من التأشيرات الممنوحة لطلاب من الصين. المغزى لن يقتصر على مبدأ الحرص على سرية الابتكارات وتأمين التقدم التكنولوجى الأمريكى ضد الاختراق الصينى، بل يمتد فى ظنى على الأقل إلى الخشية من التقاء العملاقين الآسيويين، الحلم القديم لبعض أهل الفكر فى كلا الدولتين.
• • •
أتوقع، مثلما يتوقع كثيرون فى الخارج، زيادة كبيرة فى انتباه الغرب إلى ضرورة الاستمرار فى وضع العقبات أمام أى تقارب محتمل بين الصين والهند. أتوقع أيضا سباقا غربيا ممنهجا يستهدف الهند، لا يختلف إلا فى تفاصيله عن السباق الغربى الراهن على إفريقيا، وهو أيضا ممنهج كما توضح الأحداث المحيطة بالنيجر وتوقعات العنف وعدم الاستقرار والاتصالات الجارية فى القارة السمراء ومع الدول الإقليمية ذات التأثير المتزايد.
• • •
العمل جارٍ فى مواقع عديدة لوقف انهيار النظام الدولى القائم. العمل جار بلا هوادة وبعنف متناهٍ فى أوكرانيا ويهدد بالتمدد فى بقية أوروبا انطلاقا من بولندا. جارٍ أيضا فى الشرق الأوسط فى اتجاه إعادة ترتيب علاقات دول العرب بغيرها من دول المنطقة. جارٍ كذلك فى إفريقيا لوقف تمردها على الغرب. تطورات كلها هامة، الأهم منها فى نظرنا الجهود المكثفة لمنع تلاقى الصين والهند على هدف تسريع التخلص من نظام دولى خاضع للهيمنة الأمريكية.