حدث ذلك عند بداية العقد الأخير من القرن الفائت. كنت حينها فى زيارة إلى القاهرة، وذات بعد ظهر اتصلت بى صديقة وزميلة من بلدى، صادف وجودها فى القاهرة هى الأخرى، لتسألنى عمّا إذا كنت والرفاق سوف نمضى بعد ظهر غدٍ الثلاثاء برفقة الأستاذ نجيب محفوظ على «فرح بوت» كالعادة. رددت إيجابًا، فاستطردت قائلة إنها تحب أن تأتى معنا لتتعرف على الكاتب الكبير إذا لم يكن لدينا مانع. قلت لها إن الجلسات مفتوحة، وسيرحب الأستاذ والباقون بحضورها، ولا شك أن معظمهم يعرفها بالاسم على الأقل. فهى كانت محررة فى إذاعة «الشرق» التى كانت مسموعة جدّا فى باريس، حيث تبث بنجاح بعدما أسسها الإعلامى اللبنانى رغيد الشماع، قبل أن تشتريها المؤسسة الحريرية منه فتتبدل شئونها.
بالفعل، رافقتنا الصحفية الزميلة فى اليوم التالى، يوسف القعيد وجمال الغيطانى وأنا. وكانت أناقتها لافتة وبهجة للنظر كما كانت حينها فى شرخ صباها، وكانت الأثواب القصيرة على الموضة. وهى اختارت يومها اتباع الموضة بحذق ودلال، حتى وإن كان الغيطانى قد تخوّف من أن قصر ثوبها قد لا يروق للأستاذ الكبير، فطمأنه القعيد إلى ذوق الأستاذ المرهف مثنيًا على ما فعلت هى، ولكن دون أن تدرك فحوى ما نقول!
المهم، وصلنا إلى مكان اللقاء، وتقدمتنا الزميلة بدلال ولهفة بدا واضحًا أن محفوظ استساغهما تمامًا، إلى درجة جعلتنى - حين أرادت أن تجلس على مقعد فى جواره - أُلفت نظرها إلى أنها أخرجت آلة تسجيل صغيرة من حقيبتها ناظرةً إلىّ باستئذان قلق. قلت لها بصوت خفيض: «قربى جلستك منه أكثر وسوف يروقه ذلك». ويبدو أنها لم تسمع تمامًا ما قلته لها، فقالت لى بصوت عال: ماذا تقول؟ وهنا التفت إليها الأستاذ ضاحكًا وهو يقول لها بتباسط: «افعلى ما يقوله لك الأستاذ إبراهيم يا عزيزتى». وضحكنا جميعًا عندما سألته كيف سمعنى بسمعه الضعيف، فقال: «لا... دى أسمعها بقى».
غير أن ما كان أطرف من ذلك هو أن الحوار انطلق بيننا وبين الأستاذ محفوظ حتى من قبل أن تطرح الزميلة أى سؤال على الإطلاق. ولعل الأغرب من ذلك أن الحديث مع محفوظ تحوّل بسرعة، ولمرة نادرة فى جلساتنا معه على الأقل، إلى حديث عن النساء وجمالهن وأناقتهن، ولا سيما حين يخضن مهنة الصحافة فيسهم الجمال والأناقة إلى جانب الذكاء فى نجاحهن وتسلّمهن مكانة رفيعة فى إبداعات هذه المهنة. وراح الحديث يتشعب إنما فى نفس ذلك الاتجاه، إلى درجة أحست الزميلة معها أنها حققت - من خلال تسجيله - واحدًا من أحلام عمرها، كما ستقول لى فى طريق العودة. فأجبتها أنا: «بل واحدًا من أحلام عمر أى صحفى آخر. فمحفوظ نادرًا ما يتحدث عن مثل هذه الأمور، ولكنك يا عزيزتى فتحتِ نفسه كما يبدو». فسألتنى بشىء من البلاهة: «فما دخلى أنا بالأمر؟ إنه حتى لم يعطنى الفرصة لأطرح عليه أى سؤال، لقد بدا وكأنه عالم سلفًا بما أريد أن أسأله». لكنها هنا ضحكت معنا فى السيارة حين ضحكنا.
المهم، أننا طوال الطريق رحنا نتذكر معًا تلك الحكايات الغرامية النسائية التى أسهب محفوظ فى استعادتها من ذاكرته، بما فيها حكاية زواجه التى سكت عنها حتى أمام أقرب أصدقائه إليه سنوات طويلة، وذلك - كما قال لنا - لأن مجموعة من أصدقائه القدامى كانوا يتآمرون عليه لتزويجه سيدة عُرفت بحسنها، ولكن بشخصيتها شديدة المشاكسة أيضًا، ونكدها الدائم الذى جعل خطيبًا سابقًا لها، صار لاحقًا من كبار مفكرى الإسلام فى مصر، يهرب منها إلى المغرب حيث تزوج سيدة فاضلة من هناك. ولقد أسهب محفوظ خلال الجلسة فى استعادة هذه الحكاية، متفننًا فى استعراض أوصاف تلك السيدة بشكل لا يخلو من إعجاب خفى يتواكب مع حمده ربه لأنه تزوج غيرها، وبشكل لم يرد الإفصاح عنه لأسباب قال إنه نسيها الآن.
والحقيقة أن نجيب بيه لم يسكت خلال تلك الجلسة، هو الذى كان من عادته فى معظم جلساتنا أن يصمت تاركًا الآخرين يتكلمون، فيسجل هو فى ذاكرته تفاصيل وحكايات نعرف أنه سيستخدمها لاحقًا لنصوصه وحكاياته وما إلى ذلك. فى تلك المرة بدا واضحًا أنه يوجه حديثه إلى حسناء لا شك أنها فتنته، وأراد - كما يبدو، وكما لم تدرك هى على أية حال - أن تفهم ما يحدث، بينما كنا القعيد والغيطانى وأنا نتبادل النظرات المتآمرة والابتسامات والغمزات، تاركين الأستاذ يقول ويقول على هواه، والجميلة مسحورة بما يقول، إلى درجة أنها لم تحاول - وهى الحريصة دائمًا على نظام عملها وتقنياته - أن تتحرى أمر جهاز التسجيل ولو مرة واحدة. وهى سوف تدفع غاليًا ثمن هذا الإهمال والافتتان بنجيب محفوظ، الذى من الواضح أنه سحرها بحديثه، ولكن دون أن تدرك أن سحرها هى نفسها، وكذلك انسحارها الذى تجلّى فى نظراتها، كان قد سحره فى الوقت نفسه، إلى درجة أنه حكى ما سيقول لى القعيد والغيطانى إنه أبدًا لم يحكه أمامهما، أو أمام غيرهما قبل الآن على الإطلاق!
من ناحية مبدئية، تم اللقاء على خير ما يتمنى أى واحد منا، ولا سيما على خير ما كانت الزميلة الطيبة تتوخى. وهى خلال طريق العودة أعربت مرارًا وتكرارًا عن شكرها لى ولرفيقى القعدة والطريق، لهذه الهدية «من السماء» التى قدمناها لها باصطحابها إلى الجلسة المحفوظية. فهى لم تتعرف فقط إلى أكبر كاتب فى العالم، محققة بذلك اللقاء معه حلم حياتها، بل سجلت سبقًا صحفيًا سوف يحسدها عليه الجميع ويحقق لها انتصارًا هائلًا فى مكان عملها، «وليس فقط لأنى قابلت نجيب محفوظ ورضى أن يسجل معى هذا الحديث الممتع، بل كذلك بفضل ما تقولونه لى من أنه حديث نادر لم يحدث أن أدلى به نجيب محفوظ أمام أى صحفى من قبل»، بل من المؤكد أنه لن يأتى على ذكره فى أى من مذكراته إن كتبها يومًا. وتفرقنا عند ذلك المساء وكلنا راضٍ: الكاتبان الصديقان لكونهما نالا شكر الزميلة الحسناء واعترافاتها بجميلهما، وأنا لأنى كنت الوسيط فى ذلك كله ونجحت فى أن أجلس نحو ساعتين مستمعًا لا أتدخل، والجميلة لانتصاراتها المدوية.
ولكن الأساسى فى ذلك كله قد تبخر تمامًا منذ صباح اليوم التالى. فحتى قبل أن أنهض من سريرى عند الصباح، رن هاتفى فى الفندق لأسمع صوت الزميلة نفسها تصرخ بما يقرب من العويل. فهدأتها متسائلًا عمّا حدث، طالبًا منها أن تتكلم بهدوء حتى أفهم ما بها. وعندما فعلت، سألتنى ما إذا كنت قادرًا على أن أُمكّنها من الالتقاء بـ«نجيب» من جديد. سألتها: لماذا؟ فقالت معولة مرة أخرى: «لقد اكتشفت أمس فى الليل أن جهاز التسجيل اللعين لم يشتغل. كل ما سجلته ضاع هباء. هل يمكنك أن ترتب لى موعدًا جديدًا؟". طبعًا قلت لها إن ذلك مستحيل، فمحفوظ لا يمكن اللقاء معه إلا الثلاثاء المقبل، وأنتِ وأنا سنغادر القاهرة يوم الجمعة. وحتى لو أعطانا موعدًا، سيكون من المستحيل عليه أن يعيد نفس الكلام، فهذه أمور لا تحدث إلا مرة واحدة فى الحياة، ولا سيما مع أشخاص كنجيب محفوظ. وتركتها تبكى على السماعة بينما أغلقت أنا هاتفى ورحت متابعًا نومى العميق، إنما ليس من دون أن أشعر بالحزن على الزميلة من ناحية، وعلى تلك الفرصة النادرة لإصغاء ملايين العرب لحكايات أستاذنا مع النساء والحب والزواج. والحال أننى لانشغالاتى العديدة وسفراتى المتتابعة بعد ذلك، لم أعرف شيئًا عن بقية الحكاية، لكنى لم أسأل الصديقة عن مصير التسجيل، ناهيك بأن أحدًا لم يحدثنى عن حوار أجرته إذاعة الشرق مع الكاتب الكبير جاء خارجًا عن المألوف.