رغم اهتمامى الكبير بأسواق المال بحكم التخصص السابق فلا أقصد أبدا عزيزى القارئ، يا من اعتدت التنوّع فيما أطل به عليك من موضوعات أسبوعية، أن أحصر مقالاتى فى الشروق عن البورصة ومنتجاتها وأوجاعها، لكن المزاج العام فى مصر يعكر صفوه موضوعات بعينها، تكاد تلمسها يوميا فى نقاشات وقفشات مواقع التواصل الاجتماعى التى لا تخلو من سخرية مريرة من أداء البورصة والتراجع الشديد فى أحجام التداول، فضلا عن فشل متكرر لمختلف الطروحات الأولية التى شهدتها البورصة المصرية بحيث لا تصمد الأسهم المطروحة فى الاكتتاب العام جلسة واحدة دون أن تهوى إلى قيعان مثيرة للشفقة! الأمر الذى يتعارض تماما مع الهدف من تقديم تلك الطروحات، بل ومن احتفال إدارة البورصة بها فى مشهد إطلاق جرس تدشين تداول الأسهم المطروحة لأول مرة، تمهيدا لدخول أموال طازجة من شأنها ضخ دماء جديدة فى هيئة سيولة تتحرّك بها السوق الراكدة.
فى مشهد آخر وعلى مستوى الاقتصاد الكلى يقبع ملف الطروحات العامة فى موقع سلبى متفرّد من تقارير مراجعة صندوق النقد الدولى لأداء برنامج الإصلاح الاقتصادى المصرى، تلك التقارير التى جاءت شديدة التفاؤل والاحتفاء بالأداء النقدى والمالى لمختلف عناصر برنامج الإصلاح، مستثنية من ذلك ملف الطروحات للأصول المملوكة للدولة، والتى لابد وأن تتأثر وتتعثّر إذا ما قُدّر لها أن تُلقى فى بحيرة جافة لا سيولة فيها، ولا قُدّر النجاح لنظيراتها المملوكة ملكية خاصة إلا فيما ندر وليس خلال السنوات الأخيرة!
***
قبل الشروع فى أى طرح أوّلى عام أو خاص هناك مقوّمات مهمة ومتطلبات ينبغى توافرها فى السوق مستقبلة الطرح. هناك أيضا شروط ومتطلبات فى الشركات المطروحة للاكتتاب العام، يجب على إدارة السوق مراعاتها قبل الموافقة على نشرة الاكتتاب، وهناك بالتأكيد بديهيات لازمة لا مفر من توافرها فى المؤسسات القائمة على إدارة ورقابة سوق المال قوامها التماسك والثقة التى بدونها تنهار المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها، وأقربها إلى ذهن القارئ البنوك التى إن غابت الثقة فيها هربت منها أموال المودعين وتعرّضت خلال أيام وربما ساعات إلى مخاطر الإفلاس.
وسوف نجول بك عزيزى القارئ سريعا بين تلك المقوّمات والشروط المطلوبة مجتمعة، كى نلمس دون غلوّ فى الفنيات والمصطلحات التخصصية أبرز ما تسبب فى كساد سوق الأوراق المالية وجفاف منابعها رغم تحسّن سائر مؤشرات الاقتصاد المصرى بصورة ملحوظة!. حينما قلنا إن البورصة مرآة للاقتصاد ترى بعين المستقبل المنظور ما سوف تؤول إليه حال الاقتصاد، كان ذلك مثارا للسخرية من البعض الذين عاينوا فى فترات عدة تراجع مؤشرات البورصة مع تحسّن مؤشرات الاقتصاد الكلى، والعكس يحدث أحيانا، لكن المدقق فى هذا التعبير المجازى يدرك أن المرآة لا تعكس صورة قبيحة لمخلوق جميل إلا فى حالتين: إما لفساد المرآة أو لنظرة منحازة إلى المخلوق الذى صدقت مرآته لكن ضل كل من يحسبه جميلا. لذا هاجم الكثيرون مؤشرات البورصة وطالبوا بتغييرها باستمرار وتعديل أساليب حسابها فى محاولة عبثية لتحسين المرآة، وكثيرا ما كان تشخيصهم سليما لكن الدواء الموصوف للعلاج كان قاصرا. فالعيب فى المرآة اليوم ظاهر ومحل إجماع من الخبراء المحليين والمؤسسات الدولية، لكن إصلاح المرآة الفاسدة لا يكون بتعديل المؤشرات وتبنى سياسة البروباجندا عبر المؤتمرات، بل بالنظر فى بضاعة السوق وهل هى عينة ممثلة فعلا للنشاط الاقتصادى فى مصر على تنوّعه وثرائه؟ كما يجب أن ننظر أيضا فى قاعدة المستثمرين فى البورصة والتى تقلّصت على نحو بائس لا يمكن بحال أن يكون معبرا عن المستثمرين المصريين والأجانب فى مصر.
هذا يأخذنا مباشرة إلى الشرط الأول لنجاح الطروحات الأولية والمتعلق بمتطلبات وظروف السوق المستقبلة لأى طرح جديد. تخيّل معى بركة للسباحة تخلو من الماء، كيف تلقى فيها بإنسان تريده أن يسبح؟! جفاف البركة هنا يتجسّد فى صورة شركات قليلة مقيدة أسهمها فى البورصة المصرية قوامها نحو 250 شركة (نزولا من نحو 1150 شركة عام 2002) ورأسمال سوقى لا يتخطى 42 مليار دولار حاليا، وعدد أكواد متعاملين نشطة لا يزيد عن 150 ألف كود فى أحسن الظروف هم كل ما تبقى بعد تدقيق قواعد البيانات وحذف الحسابات الوهمية، ومتوسط حجم التداول اليومى فى البورصة اليوم أقرب إلى نحو 10% مما كان عليه الوضع فى العصر الذهبى المواكب لطروحات شركات سيدى كرير وأموك والمصرية للاتصالات مطلع الألفية. هناك إذن أزمة سيولة وتقلّص ملحوظ لوزن البورصة فى النشاط الاقتصادى أقرب لما كان عليه الوضع قبل إعادة الإحياء لدى إطلاق برنامج الخصخصة نهاية التسعينيات من القرن الماضى.
هذا الجفاف الشديد فى البركة المستقبلة للقافزين الجدد جعل الواقفين على مشارفها ــ إلا من رحم ربى طبعا ــ حفنة من الهواة أو نهّازى الفرص وليس السبّاحين المهرة، بمجاز آخر اجتذبت السوق بضاعة رديئة مزجاة إلا ما ندر، وكانت نتيجة ذلك عدم استقرار أسعار الأسهم حديثة التداول قريبة من سعر الطرح، ناهيك عن تجاوز السعر بهامش ربح معقول يبرر دخولها السوق الثانوى أساسا!
وهذا يأخذنا بدوره إلى العنصر الثانى من عناصر نجاح الطروحات وهو المتعلّق بتصفية وانتقاء الشركات المقبلة على الطرح، من حيث الملاءة المالية والتميز والاستدامة. لا يصح هنا أن نركن إلى متطلبات القيد فى البورصة من شروط الربحية وعدد المؤسسين وخلافه...! هى شروط ضرورية بالطبع لكنها ليست كافية. ندرة البضاعة وعزوف الشركات الناجحة عن القيد والتداول فى بورصات شبه جافة من السيولة، ربما يغرى بالقائمين على إدارة السوق لغض الطرف عن كثير من الشروط التى لابد من توافرها فى الشركات ونشرات الطرح والاكتتاب، فالشركات المطلوبة للسوق المصرية يجب أن يتمتع نشاطها الرئيس بفرص استثمارية متميزة، ويجب أن تكون حصيلة الطرح موجهة إلى نشاط يدعم تحسّن أداء الشركة واستدامتها وأن يفصح عن ذلك بوضوح فى نشرة الاكتتاب، ويجب أن يكون تقييم سعر الطرح واقعيا وعادلا يعكس الفرص والمخاطر، ويضع فى الاعتبار الفرصة البديلة للمستثمر المحتمل، الذى يمكنه أن يوزّع أمواله بسهولة فى محفظة من الاستثمارات داخل وخارج البورصة (فى سوق العقارات وودائع البنوك مثلا). فالطرح العام ينطوى على مخاطر كثيرة وهو طبق جديد يقدّم للمستثمرين القائمين والجدد، ولا يجوز أن تقدمه باردا أو فاسدا وإلا كان فساده المتكرر سببا فى انهيار الثقة فى المؤسسات التى تعده وتقدمه، وهذا يأخذنا إلى حزمة الشروط الثالثة المطلوبة لنجاح الطروحات، بل ولنجاح أسواق المال بصفة عامة، تلك المعنية بتماسك المؤسسات القائمة على إدارة والرقابة على سوق المال.
***
لا يمكن أن يخطئ كل المتعاملين دفعة واحدة فى استشعارهم القلق من توتر العلاقة بين الهيئة الرقابية والبورصة. لا يمكن أن يتفق العقل الجمعى للمتعاملين (وهذا يتم فهمه من تقارير الشائعات والأخبار التى يرصدها الرقباء) عبثا على أن خللا حقيقيا أصاب العلاقة بين الهيئة والبورصة يدفع ثمنه المتعاملون وسمعة الاقتصاد المصرى كله، وأن هذا الخلل سببه شخصى فى الأساس! وليس من المقبول أن ترسل جهات السوق التنظيمية برسائل سلبية مدارها التعارض الشديد فى موقف كل منها حول تقييم الأصول، وإفصاحات الشركات، والتشريعات الجديدة، وإيقافات الأسهم عن التداول، ورسوم التداول، وضرائب الأرباح... وكل شىء تقريبا! بل إن تنازع الجهة اختصاص جهة أخرى فى مشهد عام لا يتوارى حتى خلف الأبواب المغلقة. كل ذلك من شأنه أن يوفّر بيئة خصبة لانسحاب الثقة ومن وراءها الاستثمارات من الأسواق، ويطرد أى أوراق مالية جادة خارج حلقة الصراع وبركة السوق الجافة بغير تردد.
المستثمر المصرى الذكى يقارن نجاح وعظم حجم طرح شركة أرامكو السعودية بأحدث طروحات البورصة المصرية، والنتائج ليست فى صالح الأخيرة بكل تأكيد. طرح أرامكو يمكن أن يكون فرصة لاجتذاب أموال جديدة من خارج المنطقة ومن خارج سوق المال إلى ساحته، لكن وحدها الأسواق المستعدة يمكنها أن تقتنص تلك الفرص، أما من ضعفت أدواتها وبضاعتها وغرقت فى خلافاتها الشخصية فتحتاج إلى دماء جديدة على مختلف الأصعدة حتى تستمر.