ثمة كتب بعينها لمؤلفين بأعينهم يمكنها أن تنتزعك انتزاعًا من أكوام الأوراق والملفات التى تكاد تغرق تحتها بحثا أو قراءة فى روتين يومى يكاد لا يظهر له فجر! ولكن يحدث أحيانا بمصادفات سعيدة أن تنهار أحد هذه الأكوام فيظهر من ورائها كتابٌ مضى ضعف الوقت الذى كنت تقرر أن تقرأه فيه دون أن تفعل! وهذا ما حدث الأسبوع الماضى مع كتاب «تجديد الفكر الدينى» (فى طبعته الثانية المزيدة المنقحة عن منشورات بتانة 2019) لنبيل عبدالفتاح؛ الباحث المتخصص القدير، والخبير الأريب، فى شئون الحركات الإسلامية، بمركز الأهرام للدراسات، والمثقف الموسوعى بألف لام التعريف، وصاحب النظر المعتبر والعقلية النقدية التحليلية التى لا تبارى..
ودور نبيل عبدالفتاح «الرصدى التحليلى»، إذا جاز التعبير، فى ما يخص الإنتاج الثقافى المصرى والعربى المعاصر، تعبر عنه عشرات الدراسات ومئات المقالات التى كتبها، ويكتبها فى الجرائد والمجلات والمواقع المتخصصة والعامة على السواء.
وتكشف هذه الدراسات عن تبن لموقف يحاول تطوير نفسه دائمًا فى ما يخص قضايا الحداثة والتغيير والديمقراطية والعولمة ومواجهة التطرف والإرهاب، وبنية التيارات الدينية الأصولية المتطرفة.. إلخ تلك الظواهر المتداخلة والمعقدة، وعلاقة السياسة بما يجرى فى الحياة العربية كلها. كل ذلك ينبئ فى الأخير عن متابعة دقيقة دءوب لما يجرى فى مجالات السياسة والثقافة والمجتمع، وما يتفرع منها أو عنها، فى مصر والعالم العربى.
ما يقرب من خمس ساعات متصلة لعدة ليال لا يفارقنى الكتاب؛ ولا أتركه وأنا أكاد أتوقف عند كل سطر وكل فكرة وأدون ملاحظة هنا أو أربط بين معلومة وردت فى سياق وأخرى فى سياق مشابه. صحيح أننى قرأت معظم هذه الأفكار فى صورتها الأولى كمقالات منشورة فى (الأهرام) و(التحرير) وغيرهما، لكن المتعة الأكيدة والوافرة التى تتحقق من نظم هذه الأفكار مجتمعةً بعد وضعها فى إطار نظرى وموضوعاتى محدد، تحكمه رؤية كلية شاملة لمعالجة ظواهر معقدة فى علم اجتماع الثقافة والسياسة والفن والأدب، وتجمع بين الخاص والعام، والجزئى والكلى، ويختلط فيها النظر بالتحليل والتنظير بالتطبيق.. متعة عقلية خالصة بالمعنى الكامل؛ وأنت تستدعى أفكارًا أو تولِّدها من وحى القراءة، ومن وحى أسئلة ومناظرات ومقارنات واستدعاءات بارعة، وفى ظنى أن أى نص تتحدد قيمته ويتحدد ثراؤه بمقدار ما يثير من أسئلة، ويفتح أبواب النقاش والمراجعة والنظر والبحث والتأمل.
وثمة فصول تطرح أفكارا ومقترحات للنقاش والعمل، والله (وأكرر والله!) لو انتبه لها أهل القرار لاختصرنا سنوات وسنوات وسنوات من اللف والدوران ولا نراوح أماكننا أبدا فى مواجهة ظواهر وأخطار وتحديات لم يعد التعامل معها بمنطق الإهمال أو الإخفاء أو «التغابى» ممكنا أو مستساغًا.
«تجديد الفكر الدينى» بمعناه الوضعى، كما يكشف مؤلفه، يحيل إلى العقل المصرى، وكيفية اشتغاله، وعملياته إزاء المسألة الدينية بكل مكوَّناتها، وأبعادها، وتداخُلاتها، وتطوُّراتها التاريخية، لا سيَّما فى ظل انفجارات العنف والتطرُّف، والتطرُّف العنيف، وأنماط العنف والإرهاب المختلفة، وإعادة إنتاج وتدوير أبنية فقهية، وتأويلية، وتفسيرية، وإفتائية ــ داخل المذاهب والمدارس الفقهية والكلامية التأسيسية، والحواشى المعتمدة عليها، طيلة قرون من الجمود فى الفكر الدينى والكلامى، ومدارسه، بعد إغلاق باب الاجتهاد، حيث تداخلت فيها الأهواء، والمصالح، والانتماءات الاجتماعية، والولاءات السياسية، والفواعل، والسياقات الداخلية والإقليمية المؤثرة على آلة إنتاج ــ وإعادة إنتاج ــ الأفكار والتفسيرات، والآراء النقلية، وشروحها الاِتّباعيَّة المحمولة على التأويل الدينى، والمصالح التى ينوء بها، والتى تستتر فيما وراء الخطابات وحولها، وفى بعض الأحيان تكون جليَّةً ومباشرة.
ولأن مفهوم نبيل عبدالفتاح لتجديد الفكر الدينى (مع تأكيد الفارق بين الدين كجوهر ومجموع قيم ومبادئ فى نصوص مقدسة، وبين الأفكار التى أنتجت ودارت حول هذه النصوص) لا يلقى بمسئوليته على المؤسسات الدينية فقط، ولا على رجال الدين وحدهم، ولكن على المجتمع بكامل مؤسساته؛ بهذا المعنى يعتبر نبيل عبدالفتاح كتابه «تجديد الفكر الدينى» (يقع فى 600 صفحة من القطع الأقل من المتوسط) مقدَّماتٌ أَوَّلِية، يطرح العوامل والأسباب المختلفة لمشكلات تتعلق بتجديد العقل، والفكر الدينى الوضعى، ويطرح بعض المداخل لمعالجتها، من خلال بحث بعض القضايا، والإشكاليات، والأزمات الممتدَّة، المطروحة على العقل المصرى والعربى.