مصاهر الألومنيوم تحت رحمة الكهرباء - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 1:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصاهر الألومنيوم تحت رحمة الكهرباء

نشر فى : الإثنين 17 فبراير 2020 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 17 فبراير 2020 - 9:20 م

تحتل إمدادات الكهرباء بأسعار مناسبة أهمية قصوى فى تحديد مصير أى من مصاهر الألومنيوم حول العالم. العام الماضى وتحديدا يوليو 2019 شهد إفلاس المصهر الوحيد فى البوسنة والمسمى Aluminij وذلك تأثرا بتعاقدات الكهرباء قصيرة الأجل التى حرمت الشركة من استقرار أسعار أهم مدخل من مدخلات إنتاج سبيكة الألومنيوم عبر تعاقدات طويلة الأجل. الشركة الوحيدة المنتجة للألمنيوم فى البوسنة والتى توظف نحو 900 عاملا وتخلق فرص عمل لنحو عشرة آلاف آخرين بين موردين وعملاء وأصحاب مصالح، ويمتلك صغار المساهمين نحو 44% من أسهمها... وجدت نفسها غارقة فى مديونية بلغت عشية قرار الإفلاس نحو 219 مليون دولار أمريكى، وقررت على أثر صدمة الكهرباء إيقاف التشغيل وإرسال عمالها فى إجازة طويلة غير مدفوعة الأجر لحين إتمام عملية الإفلاس.
فى جانب آخر من العالم تمتلك الصين 217 مصهرا لإنتاج الألومنيوم، تستهلك فى مجموعها نحو 775 ت.و.س (تيراوات/ ساعة) من الكهرباء لإنتاج سنوى بلغ نحو 57.5 مليون طن من المعدن، بما يستوعب نحو 11.3% من الاستهلاك السنوى الكلى من الكهرباء لدولة الصين العام الماضى! وقد أكد تقرير الوكالة الألمانية للطاقة فى معرض دراسته لتلك الحقائق على الأهمية الفائقة لتوافر مصدر مستقر «تقليدى» للطاقة من خلال شبكة الكهرباء، حتى لا تتضرر جودة المنتج النهائى أو تتعرض لأية مخاطر قد تتسبب فيها مصادر الطاقة المتجددة. فى ذات الوقت تؤكد الدراسات على أن مصاهر الألومنيوم وحدها يمكنها أن تحقق وفرا كبيرا فى الاستهلاك الكلى للكهرباء لو أمكنها التحول إلى نظام مرن لجانب الطلب الصناعى يمكن من خلاله تخزين الطاقة فى خلايا الالكترولايت بما يوفر نحو 10% من استهلاك الخلايا، مع الاحتفاظ بميزة هذا النوع من الصناعات فى تحقيق الاستقرار للشبكة المركزية للكهرباء. وحدها خلايا الألومنيوم يمكن أن تعالج ما يقرب من 2.3% من الهدر فى استهلاك الكهرباء بدولة الصين العملاقة، لو تم تقديم الحوافز اللازمة لتعديل خلايا الألمنيوم لتسمح بهذا النوع من التخزين، كما فعلت شركة Trimet الألمانية والتى تنتج نحو 750 ألف طن سنويا من منتجات الألومنيوم دون إضرار بجودة المنتج.
ولم تكن مصاهر توماجو الأسترالية بعيدة عن مخاطر التوقف المستمر بسبب عدم استقرار إمدادات الكهرباء منتصف عام 2018. فقد توقفت الكثير من الخلايا بالفعل بسبب انقطاع التيار الكهربائى بعد بلوغ العجز فى الشبكة ما يقرب من 5 آلاف ميجاوات، هى إجمالى ما فقدته الطاقة الإنتاجية للشبكة القومية خلال الأعوام الأخيرة. وقد عجزت المحطات الاحتياطية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح دون توفير الكهرباء اللازمة خلال ساعات متفرقة من اليوم خاصة فى الصباح الباكر والمساء، علما بأن خلايا الألمنيوم يجب أن تعمل دون توقف على مدى الساعة. توماجو تنتج نحو 590 ألف طن سنويا وتمتلك شركة «ريوتنتو ألكان» Rio Tinto Alcon الكندية أكثر من 50% من أسهمها. صناعة الألمنيوم هى من أهم الصناعات الجاذبة للاستثمارات الأجنبية، خاصة بعد دخول المنتجات ذات القيمة المضافة العالية فى كثير من الصناعات لتحل محل معادن أخرى كالحديد.
***
التطور العلمى يحول دون الاستسلام إلى فرضية إجهاض أى صناعة لا تملك الدولة ميزة نسبية فى الموارد اللازمة لمنتجاتها. تلك الفرضية لو استسلمت لها دولة اليابان ــالفقيرة فى مواردها الطبيعيةــ لما تحققت إنجازاتها الصناعية والتكنولوجية المبهرة عبر التاريخ. الفقر المائى له حلول، والفقر فى مصادر الطاقة التقليدية له حلول كثيرة، أبرزها التوسع فى إنتاج الطاقة من مصادرها المتجددة من الشمس والرياح والمساقط المائية، فضلا عن تطوير تكنولوجيا الإنتاج بصفة مستمرة لتسمح باستخدام آمن لتلك المصادر المتجددة دون إفراط فى تدفقات الموارد عبر الشبكات وضياع الكثير منها فى منظومة النقل والتوزيع والاستهلاك، خاصة كلما كانت تلك المنظومات متقادمة، ولا يتم صيانتها بصفة مستمرة.
استجابة كل من جانبى العرض والطلب فى إنتاج الكهرباء اللازمة للاستخدام الصناعى كثيف استهلاك الطاقة، هى مسألة حياة أو موت لتلك الصناعات، والحكم المتسرع بقتل صناعة لمجرد ندرة موارد تشغيلها هو حكم يصعب الرجوع عنه، وتدفع تكلفته الباهظة الأجيال المتعاقبة.
يقول السيد «مات هويل» الرئيس التنفيذى لشركة توماجو الأسترالية المشار إليها سابقا: «إذا أردنا أن نكون أمة تصنع الأشياء، عوضا عن استيراد جميع احتياجاتنا من الخارج، يجب أن يكون لدينا نظام متكامل لإنتاج الطاقة يمكن الاعتماد عليه، بمعزل عن تقلبات حالة الطقس».
يؤكد تقرير وود ماكينزى الأشهر عالميا فى استعراض وتحليل إحصاءات صناعة الألمنيوم، على أن شركة مصر للألمنيوم بنجع حمادى وهى المصهر الوحيد للألمنيوم فى مصر باتت تحصل على الكهرباء بسعر هو الأعلى عالميا دون نظير! فقد بلغ سعر الكيلووات ساعة للمصنع نحو 7 سنت/كيلووات ساعة مقابل متوسط عالمى لا يزيد عن 3 سنت/كيلووات ساعة. فإذا علمنا أن قرش صاغ واحد زيادة فى أسعار الكهرباء يكلف الشركة 50 مليون جنيها زيادة فى مصروفاتها كل عام، فإن 4 سنت فرق فوق المتوسط المقبول عالميا تكلف الشركة مصروفات سنوية إضافية تبلغ تقريبا 3.2 مليار جنيه سنويا!. المتوسط العالمى لسعر الكهرباء «لمصاهر الألومنيوم» هو المقياس الوحيد الذى يمكن الاعتماد عليه، بهدف التعرف على الوضع التنافسى لممتهنى تلك الصناعة التى تقدم منتجاتها فى سوق عالمية مفتوحة، تسودها آلية تسعير عالية الكفاءة، تخضع لاعتبارات العرض والطلب ببورصات المعادن العالمية.
فى حديث لى مع أحد أساتذتى المخلصين، والذى يشغل حاليا منصبا دوليا مرموقا فى مجال الاقتصاد والتنمية، اتفقنا على أن الوسيلة الوحيدة المقبولة عالميا لتصدير الكهرباء بقيمة مضافة عالية، هى عبر منتجات مصاهر الألومنيوم وأفران السبائك الحديدية التى تتراوح نسبة الكهرباء فى تكلفة الطن منها بين 40% إلى 50%. كذلك اتفق معى وزير سابق لقطاع الأعمال على أن شركة مصر للألومنيوم هى إحدى الشركات القليلة التى أثمر فيها كل ما تم إنفاقه من أموال.
***
بينما ترزح الكثير من الصناعات الثقيلة حول العالم تحت نير تقلبات أسعار البورصات لمنتجها النهائى، بفعل الحروب التجارية لتكسير العظام. تعانى شركاتنا المحلية من أثر سلبى مضاعف، نتج عن ارتفاع كبير فى أسعار الطاقة، وعدم القدرة على التنبؤ بها لفترات طويلة، بالإضافة إلى صدمات أسعار المعادن التى تمر حاليا عبر موجة طويلة من الانخفاض، الأمر الذى يفسد على الفور أى دراسة جدوى اقتصادية للاستثمار، سواء بإنشاء مصانع جديدة أو التوسع أو حتى الإحلال والتجديد فى المصانع القائمة، نظرا لكون الاستثمارات فى تلك الصناعات عادة ما تكون كبيرة ولا يمكن تمويلها ذاتيا.
بعض الشركات تحصل على التمويل المصرفى لمشروعاتها الجديدة استنادا إلى قوة وصلابة مركزها المالى، عوضا عن الجدوى الاقتصادية للمشروع المراد تمويله، مع عدم إغفال دراسات الجدوى من قبل إدارات الائتمان المصرفية بكل تأكيد. لكن التضرر السريع للمراكز المالية للشركات الصناعية فى مصر كذلك دون استنادها إلى قوائمها المالية لإثبات ملاءتها المالية، ناهيك عن فشل جميع دراسات الجدوى عن الصمود أمام الاحتمالات المختلفة لدراسة الحساسية لكل من أسعار الطاقة وأسعار الفائدة على العملة المحلية.
المبادرات الناجحة للبنك المركزى المصرى لدعم الصناعات، والحيلولة دون تعثر وإفلاس العديد من الشركات بسبب مديونياتها للقطاع المصرفى. نتوقع أن تتكامل مع مبادرات مثيلة من قبل منتجى الطاقة، لتوفير فرص عادلة للإنتاج والمنافسة للصناعات الثقيلة، تلك التى وصفناها فى مقال سابق بأنها ظهير الدولة، والحديث لن يتوقف...

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات