بعد الغزو الروسى لأوكرانيا، وفى إطار الحرب السياسية والإعلامية بينها وبين الولايات المتحدة، أعلنت روسيا اكتشافها مراكز بيولوجية أمريكية فى أراضى أوكرانيا تعمل على إنتاج فيروسات لأمراض فتاكة لاستخدامها كأسلحة بيولوجية، كما أنها اكتشفت مراكز لتجميع الطيور من الأجناس المهاجرة مرقمة بحسب خطوط سير هجراتها والدول التى تعبرها خلال رحلاتها، وأن هذه الطيور تحقن بفيروسات لأمراض فتاكة وتزود بكبسولات يمكن تفجيرها بأجهزة تحكم عن بعد فتقتل الطائر فوق الدولة الهدف ويهوى إلى أراضيها ناقلا الوباء والمرض إلى مواطنيها، وذكرت المصادر الروسية أن الولايات المتحدة نقلت العديد من الأمراض إلى العالم من بينها فيروس كوفيدــ19 الذى عم العالم أخيرا.
سارعت الولايات المتحدة إلى نفى الاتهامات الروسية مؤكدة أنها حملة أكاذيب وتضليل هدفها شغل العالم عن المذابح التى تقوم بها فى أوكرانيا، إلا أنه من الملاحظ أن الولايات المتحدة لم تنف وجود مراكز بيولوجية لها فى أوكرانيا بل انصب النفى على أنها لا تعمل فى إنتاج الفيروسات لاستخدامها كسلاح فى الحرب البيولوجية مؤكدة أن المراكز التى تمولها تعمل لإنتاج الأمصال والدواء لصالح البشرية.
الاتهام الذى أطلقته روسيا جد خطير ويعتبر إن صح انتهاكا صارخا للقانون الدولى، لأن الولايات المتحدة موقعة على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية التى تمنع إنتاج وتطوير الأسلحة البيولوجية الموقعة فى 10 إبريل 1972 فى قصر الأمم فى جنيف والتى تضم 182 دولة من أعضاء الأمم المتحدة. الموقف جد خطير وجد محير، فهل نصدق الادعاء الروسى أم نصدق النفى الأمريكى؟ آخذين فى الاعتبار أن الولايات المتحدة هى الدولة التى استخدمت خلال تاريخها كل الأسلحة المحرمة بلا استثناء، بدءا من النووية فوق هيروشيما ونجازاكى مرورا بالكيميائية باستخدام Agent Orange المسرطن فى فيتنام والبيولوجية التى بدأت بتوزيع بطاطين ملوثة بميكروب الجدرى على الهنود الحمر فى القرن التاسع عشر إلى ما أثاره مذيع CNN الشهير بيتر أرنيت الحائز على جائزة بوليتزر باستخدام غاز السارين فى فيتنام وهو الاتهام الذى أقصى المذيع الشهير تماما عن الساحة الإعلامية.
أم نصدق تصريحات Izumi Nakamitsu الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لشئون نزع السلاح التى جاء بها أن الأمم المتحدة ليست على علم بأى نشاط لإنتاج أسلحة بيولوجية فى أوكرانيا، علما بأن للعالم تجربة مريرة من تصديق تصريحات الأمم المتحدة فى أزمة العراق عندما أكدت وجود أسلحة نووية وكان ذلك فاتحة لتدمير العراق ثم ثبت لاحقا كذب هذه الادعاءات وأصبح لدينا يقين الآن أن الأمم المتحدة ومؤسساتها تتحكم فيها وتحكمها الإرادة السياسية للدول العظمى.
• • •
نشير مجددا إلى أن الولايات المتحدة لم تنف وجود مراكز أبحاث بيولوجية لها فى أوكرانيا مؤكدة أنها مراكز تجرى أبحاثا حميدة، ولكن ما هو الفيصل بين الحميد والخبيث فى مجال التكنولوجيا التى طالما توافرت، فالأمر مرهون بمستخدمها؛ هل يؤججها ناحية الخير أو الشر، فالتقانة النووية يمكن استخدامها فى إنتاج الطاقة من المفاعلات السلمية ويمكن استخدامها فى إنتاج القنابل وأسلحة الدمار الشامل، والصواريخ يمكن استخدامها لتحمل أقمار الاتصالات والاستشعار عن بعد لكشف الثروات فى الأرض ويمكن أن تحمل الرءوس النووية التى تحمل الموت والدمار للبشرية.
إن الأخبار يجب ألا تؤخذ بمعزل عن بعضها بل علينا أن نضع الخبر بجانب الخبر لنحصل على صورة متكاملة، وفى هذا الصدد أشير إلى خبر نشر تزامنا مع أخبار المراكز البيولوجية فى أوكرانيا يقول إن شركة Oxitec ــ وهى شركة أسسها سنة 2002 باحثان بريطانيان من جامعة أكسفورد واشترتها سنة 2015 شركة Intrexon الأمريكية ــ أعلنت أنها أطلقت أربعة مليارات بعوضة ذكر مهندسة وراثيا ومسجلة تجاريا تحت اسم OX513 A ليقوموا بتلقيح إناث البعوضة المعروفة علميا باسم Aedes aegypti الناقلة لحمى الدنج والحمى الصفراء وحمى الزيكا، فينتج من هذا التلقيح نسل ضعيف يموت قبل سن البلوغ فيسهم ذلك فى القضاء على هذه الآفة الضارة. الجدير بالذكر أن الشركة قامت بحملة علاقات هامة نشطة فى ولايتى فلوريدا وكاليفورنيا لطمأنة السكان بأنه لا خطرا صحيا ولا بيئيا من إطلاق هذه البعوضة، وأن الشركة سبقت أن أطلقت أسرابا منها فى بنما والبرازيل وجزر الكايمان ولم ترصد أى أضرار، بمعنى أن الشركة استخدمت سكان دول العالم الثالث كفئران تجارب لصالح الشعب الأمريكي!. تزامن ذلك إعلان الباحثة Ruth Müller من شركة Polo GGB فى إيطاليا بإجراء تجارب مماثلة على بعوضة Anopheles gambiae الناقلة للملاريا فى أفريقيا بتمويل من مؤسسة Bill Gates. لعلنا نتساءل وما الضرر من هذه الأبحاث التى تهدف إلى القضاء على حشرات ضارة وإنتاج فصائل من النباتات والحيوانات أكثر إنتاجا وأكثر مقاومة للأمراض لعل فى ذلك خيرا ولكن من هو الرقيب والحكم والفيصل الذى يضمن أن تظل هذه الأبحاث موجهة اتجاها حميدا وألا يتحول استخدامها من القضاء على أمراض فتاكة إلى نقل أمراض أكثر فتكا. لقد حققت العلوم البيولوجية والتقانة المرتبطة بها طفرات هائلة فى السنوات القليلة الماضية لعلها الأكبر فى كل ميادين العلم منذ استنساخ أول حيوان ثديى وهى النعجة دوللى عام 1996 واستكمال وضع خارطة الجينوم البشرى عام 2003 ووضع تقانة Advanced Gene Editing المعروفة باسم CRISPR التى تقوم على قطع سلسلة الحمض النووى وإدخال حلقات جديدة فى السلسلة تغير من صفات الكائن الحى وقد خرجت هذه التقانات من المعامل ووصلت إلى الشركات التجارية التى هدفها الأسمى هو الربح ونزلت إلى الأسواق. ومن أشهر السوابق قبلها شركة Monsanto الأمريكية التى طرحت فى الأسواق بذورا مهندسة وراثيا تغرز إنزيمات تطرد الحشرات فلا تحتاج الزراعة إلى مبيدات حشرية ملوثة للبيئة، ولكن ولأن النحل من الحشرات فقدت الولايات المتحدة أكثر من نصف النحل الموجود بها فنقص إنتاج العسل والأخطر من ذلك أن العديد من المحاصيل خاصة الموالح والفواكه نقصت نقصا شديدا لأن النحل هو المسئول عن نقل حبوب اللقاح إليها ولعله من الطريف أن الشركة تغلبت على هذه المشكلة بطرح نحل مهندس وراثيا فى الأسواق!
إن العبث بتوازنات الطبيعة حتى وإن كان الهدف منه نبيلا يمكن أن يكون له تداعيات فى غاية الخطورة خاصة وإن كان هذا العبث يهدف فى النهاية إلى تحقيق الربح التجارى.
• • •
فى تقديرى أن النظر فى الادعاءات الروسية حول مراكز الأبحاث البيولوجية فى أوكرانيا من خلال الحرب الروسية الأوكرانية والعداء المحتدم بين روسيا وحلف شمال الأطلنطى خطأ كبير وخطير فهذا أمر يهدد البشرية جمعاء ويجب أن يخضع لتحقيق دولى دقيق وغير مسيس وبشفافية كاملة لكشف إن كانت هذه التحقيقات أقل نسبة من الحقيقة لإظهارها. لقد وضع القانون الدولى ضوابط صارمة على التكنولوجيا النووية أدت هذه الضوابط المسيسة والمنحازة إلى عقوبات وصلت إلى حد الدمار الشامل للعراق والحصار الخانق لإيران وكوريا الشمالية وغض الطرف الكامل عن إسرائيل، ولعلى أشير هنا إلى أن الأسلحة البيولوجية هى أخطر أسلحة الدمار الشامل ويفوق خطرها خطر السلاح النووى الذى يسهل رصد إنتاجه وتنقل مكوناته ووسائل إيصاله من طائرات وصواريخ وغواصات، ويسهل رصد استخدامه أو تجربته عن طريق الوهج الناتج عن الانفجار، وسحابة عش الغراب التى يسهل رصدها بالأقمار الصناعية، والارتجاجات التى ترصدها مقاييس ريختر والإشعاع المنبعث، كما أن ردود الأفعال السياسية والشعبية لاستخدامه تعجز عن تحملها الدول العظمى أما السلاح البيولوجى فهو سلاح صامت يصعب رصده وإثبات استخدامه.
• • •
على المجتمع الدولى أن يحشد قواه ويعبئها فى جبهة قوية موحدة لوضع نظام دولى يضع رقابة صارمة لتنظيم التجارب والتقانات البيولوجية قبل أن نستيقظ يوما من سباتنا لنجد أن المسخ الذى تنبأت به مارى شيللى فى بداية القرن التاسع عشر الذى صنعه العالم فرانكشتاين ما هو إلا شخصية كرتونية من التى يلهو معها ميكى ماوس مقارنة بما أنتجه العلم الحديث.