تشهد هذه الأيام فعاليات الاجتماعات نصف السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين فى واشنطن، تتبعها اجتماعات أخرى فى نيويورك عن تمويل التنمية فى الأمم المتحدة.
وتجتهد التقارير الدولية، التى ستُناقش مع وفود الدول المحتشدة، فى تتبع الاقتصاد العالمى بين رصد وتوقع مؤشرات النمو والتضخم. ولكنها فى حمى المتابعة للشعور بالتعافى تكاد لا تعير ما يستحق من انتباه من ضعف فى النمو وتفاوت فى أرقامه بين اقتصادات العالم، وأن مكونات التضخم ما زالت عصية فى استجابتها لإجراءات التقييد النقدى باستمرار رفع أسعار الفائدة. فالدول المتقدمة والنامية مثقلة بصراعات جيو - سياسية وإجراءات حمائية تسببت مجتمعة فى تفتت الاقتصاد العالمى وتعويق آليات التجارة والاستثمار عن القيام بدورها فى دفع النمو عن رقمه الحالى المستقر عند رقم منخفض لم يتجاوز 3.2 فى المائة فى العام الماضى، وهو الرقم المتوقع نفسه للعام الحالى والمقبل أيضًا. ولا يمكن إغفال تفاوت الأداء بين البلدان المتقدمة؛ حيث يتحسن أداء نمو الاقتصاد الأمريكى نسبيًا مدفوعًا بمرونة سوق العمل وزيادة الإنتاجية.
وهناك بدايات للاقتصاد اليابانى لاستعادة مسار موجب للسياسة النقدية برفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ 17 عامًا متمردة على أرقام سلبية ليصبح فى مدى صفر حتى 0.1 فى المائة مع زيادة فى معدل الأجور عن معدل أسعار المستهلكين، متزامنًا ذلك مع ارتفاع فى بورصاتها بأرقام أعلى مما شهدته منذ أكثر من ثلاثة عقود. على النقيض من ذلك، يتباين أداء الاقتصادات الأوروبية؛ فمؤشرات الاقتصاد البريطانى تؤشر إلى مرحلة ممتدة من نمو متدنٍ بتضخم مستمر مدفوع بقيود على المالية العامة وترقب فى تغيرات سياسية ضخمة.
وفى منطقة اليورو يتأرجح النمو بين 0.4 فى المائة و0.8 فى المائة بين العامين الماضى والحالى، ويدخل الاقتصاد الألمانى فى مرحلة غير معتادة على أدائه المعتاد قبل بداية هذا العقد وأزماته وما شهده من حرب فى أوكرانيا. ويفسر المعضلة الألمانية اعتماد ماكينة اقتصادها على العوامل الخارجية فيما كان من استيرادها طاقة رخيصة من روسيا ومدخلات إنتاج من الصين، ثم تصدير منتجاتها النهائية والوسيطة إليها، وهى عوامل أربكتها الصراعات الجيو - سياسية والقيود الحمائية. وتسعى الزيارة الأخيرة للمستشار الألمانى أولاف شولتس لتيسير الاستثمارات والتجارة مع الصين التى ما زالت تحتل مركز الشريك التجارى الأول لبلاده على مدار السنوات الثمانى السابقة. وحاليًا، يحاول الاقتصاد الصينى الانفلات مما يُعرَف بفخ الدول المتوسطة الدخل.
فبعد ثلاثين عامًا من النمو المرتفع بمتوسطات سنوية اقتربت من 10 فى المائة حتى نهاية العقد الماضى، انخفض النمو ليتراوح بين نصف وثلث هذا المعدل فى الأعوام الأخيرة. ويُعيد الاقتصادى نوريل روبينى، الذى شارك فى منتدى عقد مؤخرًا فى بكين تحت عنوان «التنمية المستمرة فى الصين»، إلى عوامل داخلية منها الاعتبارات الديموغرافية بزيادة الأعمار وتحديات فى قطاع العقارات وارتفاع المديونيات العامة والخاصة. وإن تصاعد موجات الحمائية ومحاولات تفكيك العولمة الاقتصادية والقيود التى تفرضها السياسات الصناعية الغربية على مدى التعاون التكنولوجى، هى ما يعرقل حركة الاستثمار الأجنبى المباشر ومن ثم تحجيم نمو القطاعات التى تستفيد منه فى الصين.
وفى الزيارة الأخيرة لوزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى الصين طالبت بكين بتغيير استراتيجيتها للنمو الاقتصادى التى جعلت فوائض إنتاجها تهدد بمزيد من «المخاطر لأوضاع العاملين والأعمال فى الولايات المتحدة وحول العالم» وفقًا لتصريحاتها.
وينذر ما سبق بأن تقابل فوائض الإنتاج هذه بمزيد من قيود التجارة، خاصة مع تفسيرها بأنها ناجمة عن الدعم المالى لهذه الصناعات، وليس لقلة الطلب المحلى بسبب زيادة الادخار كما يفسره اقتصاديون صينيون، مثل ياو يانج، الأستاذ بجامعة بكين الذى دعا إلى تحويل هذه المدخرات إلى مزيد من الاستثمارات الصينية إلى الخارج، بما فى ذلك إلى الولايات المتحدة. ومن الأسواق الناشئة فى مجموعة العشرين تستمر الهند فى نموها المرتفع ومن بعدها إندونيسيا، ثم تأتى بعدهما اقتصادات أمريكا اللاتينية الممثلة بالمكسيك والأرجنتين والبرازيل بنمو أعلى من بعض التوقعات ولكنه ما زال منخفضًا.
أما أداء باقى اقتصادات بلدان عالم الجنوب فيأتى، باستثناءات لبلدان أعلى دخلاً، متواريًا مهمشًا بقليل من الاكتراث عن أوضاعه وبإشارات عن معاناتها من تراجع فى النمو وزيادة فى الديون وانحسار التدفقات المالية الجديدة إليها.
ويكفى أن نشير إلى تزايد فجوة تمويل أهداف التنمية المستدامة للبلدان النامية لما يقترب من 4 تريليونات دولار سنويًا مع تراجع حاد فى صافى التدفقات المالية للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بخاصة مع ارتفاع أعباء سداد المديونية الخارجية لما يتجاوز ما تنفقه هذه البلدان على كل مجالات التعليم والصحة والخدمات الأساسية مجتمعة.
بما دعا التقرير الأخير للأمم المتحدة لتمويل التنمية إلى التحذير من ضياع الفرصة الأخيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتى صارت أبعد منالاً مع اقتراب العالم من خط النهاية فى عام 2030.
فأى تعافٍ للنمو يطنطن به البعض بينما أوضاع التنمية تشتكى شح التمويل وغلبة الديون وانحسار الاستثمار وتعويق التجارة بصراعات جيو - سياسية.
فأزمات التنمية التى تعانى منها بلدان عالم الجنوب لن يسلم من تبعاتها من يظن أنه بمنعة منها بمؤشرات نمو متهافتة أو بتحركات البورصات المتصاعدة.