المجازفة الإقليمية.. شـرط التأهـل للقيادة - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:38 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المجازفة الإقليمية.. شـرط التأهـل للقيادة

نشر فى : الخميس 17 يونيو 2010 - 9:43 ص | آخر تحديث : الخميس 17 يونيو 2010 - 9:43 ص

 كان بول نوبل أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة ماكجيل يقول لى ولآخرين يدرسون سياسات الشرق الأوسط، إن أرادت دولة أن يكون لها صوت مؤثر فى السياسة الدولية وتكون محل احترام الدول الكبرى، فما عليها إلا أن «تجازف إقليميا»، لأنه بدون مجازفة إقليمية وبدون الإقدام على مخاطرات محسوبة، لن ينتبه لها الأقطاب، وإن انتبهوا لأسباب أخرى فلن يسعوا إليها إلا لتلعب أدوارا هزيلة. كنا نقارن بين الأقاليم وأدوار الدول فيها. توقعنا ألا يكون للصين مكان ومكانة إلا إذا خرجت من عزلتها ولعبت دورا إقليميا مؤثرا.

وتوقعنا أن تبقى أمريكا اللاتينية ملعبا للولايات المتحدة، تلعب فيه منفردة مطمئنة إلى أن سلبية دول القارة ستمنع بروز قوة إقليمية لها وزن، وتوقعنا ألا تصل إسرائيل، على أهميتها وقوتها وروابطها بالولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، إلى مكان الدولة القائد أو الدولة الإقليمية الأعظم تأثيرا مهما بلغت شبكة التطبيع من متانة وكثافة، فالدولة الصهيونية بحكم التعريف والتركيب لن تطمئن إلى كل ما هو خارج أسوارها، ولن يطمئن جيرانها خارج الأسوار إلى ما يبطنه حكامها. هذه الدولة يمكن أن تقدم على مغامرات فى الإقليم ولكنها لن تجازف بما هو أكثر من غارات عسكرية ومؤامرات استخباراتية.

تذكرت ما كنا نتحدث فيه وما كنا نتوقعه قبل عقود وأنا أقرأ للولا دا سيلفا، رئيس البرازيل، وهو يدعو المكسيك، الدولة الثانية فى أمريكا اللاتينية من حيث الكثافة والثروة، للعودة إلى قارتها وتنظر ناحية الجنوب بعد أن أصابها كرب شديد نتيجة تدهور علاقاتها بالولايات المتحدة.

كان يقال إن من جاور السعيد يسعد، وبالتالى كانت المكسيك مرشحة دائما لقيادة أمريكا اللاتينية بحكم موقعها بين القارتين الأمريكيتين ودعم الولايات المتحدة لها وشراكتها المتعددة الأوجه بالدولتين الأكبر فى أمريكا الشمالية. لم يكن تصريح كهذا ليصدر عن الرئيس البرازيلى، إلا إذا كان هو ونخبته الحاكمة والرأى العام البرازيلى عقدوا العزم جميعا على التزام خيار المجازفة الإقليمية ليكون للبرازيل كلمة مسموعة فى المحافل الدولية. وقد كان.

تذكرته أيضا وأنا أقرأ تصريحا للسيد أوغلو وزير خارجية تركيا يتحدث فيه عن «العربة» التى تحركت من استانبول متجهة نحو أقصى نقطة فى المغرب على ساحل الأطلسى، ومتمنيا ألا تقف الحدود السياسية حاجزا يعرقل مسيرتها.

تشوب التصريح مبالغة لا شك فيها ولكن إذا وضع فى سياق التطورات الراهنة لأمكن اعتباره توصيفا دقيقا لحالة مجازفة إقليمية كتلك المجازفات التى كنا نشتغل على تحليلها نظريا قبل عقود.

كان يمكن اعتبار التصريحات التركية فقاعات كلامية كتلك التى تعودنا عليها فى أجوائنا العربية، لو أن أردوجان لم يجمع قادة أربع دول عربية ليوقعوا على وثيقة تنشئ اتحادا رباعيا فى منقطة المشرق يضم، إلى جانب تركيا، سوريا ولبنان والأردن. بمعنى آخر، لم تكن العربة التى تحدث عنها أوغلو حلما أو صرخة إعلامية.

ها هى تسير على قضبان تجر قطارا وصل بالفعل إلى محطات فى سوريا ولبنان والأردن، ومن قبلها وصل، بمعنى من المعانى، إلى فلسطين محمولا على أسطول تقوده سفينة تركية واسمها مافى مرمرة . هذا النوع من العمل السياسى الخارجى يقع تحت عنوان «مجازفة إقليمية محسوبة تمهد لدور دولى مؤثر وفعال».

هذا، على الأقل، ما يعترف به زببنيو برجنسكى مستشار البيت الأبيض فى عهد الرئيس كارتر عندما توجه منذ أيام بنصيحة إلى إدارة أوباما يقول فيها ما معناه إن واشنطن يجب أن تسعد بما حققته حكومة تركيا على الصعيد الإقليمى، لسبب بسيط وهو أن تركيا حليف قديم للولايات المتحدة، وكل إضافة إلى مكانة تركيا ونفوذها هو إضافة إلى أمن أمريكا ومصالحها الخارجية. وانتهز برجنسكى الفرصة ليرد على خصوم تركيا الجدد فى أمريكا والغرب قائلا إنه إذا وجدت كراهية خاصة لدى بعض الأتراك لأمريكا فإنها لن تكون أشد من كراهية الباكستانيين لها، فضلا عن أن أمريكا قصرت حين تقاعست عن بذل جهود كافية لمنع تدهور علاقاتها بتركيا منذ بدايات حرب العراق. يعرف برجنسكى، ويعرف أهل العلم والسياسة الخارجية فى أنقرة واستانبول، أن تركيا تجازف إقليميا فى الشرق الأوسط لأنها تريد أن تكون أقوى وأشد فاعلية فى دائرتها «الغربية» التى تسعى لتأكيد انتمائها لها.

سمعت أردوجان يقول إن الحملة التى تشنها أوساط أوروبية تحت زعم أن تركيا خرجت من الغرب حين بدأت تتقارب مع الدول العربية الإسلامية، إنما هى «دعاية قذرة»، ففرنسا مثلا التى تتعاون مع الدول العربية الإسلامية وتتقرب إليها لا يقال عنها إنها خرجت من الغرب أو تسعى للخروج منه.

لكل مجازفة ثمن. لا أظن أن الاتفاق الرباعى الذى جرى توقيعه فى استانبول يعنى بالضرورة أن المشرق يرقد الآن مطمئنا فى حضن تركيا. صحيح أن اتصالات ومفاوضات سبقت الإعلان عنه، وأنه لم يأت إلا بعد أن تطورت العلاقات الاقتصادية وتكثفت بشكل ملحوظ بين تركيا والأطراف العربية فى هذا الاتفاق قبل توقيعه، وأن أنقرة حين نفذت خطة أسطول غزة وضعت بين أهدافها «تعميد» الاتفاق المزمع توقيعه، وأن يقوم على شعبية كاسحة لتركيا وسياساتها الإقليمية، وقد سنحت الفرصة فرأيت بنفسى فى عدد من أحياء بيروت أعلام تركيا تنافس أعلام الدول المشاركة فى أوليمبياد جنوب أفريقيا، وتركيا ليست مشاركة فيه وإن كانت تشارك بعزم وإصرار فى سباق من نوع آخر. صحيح هذا كله، ولكن تبدو صحيحة أيضا الاعتبارات التالية:

أولا: إنه بإقامة هذا التجمع الرباعى زاد عدد خطوط التماس بين تركيا وإيران، وبخاصة فى النقاط الحساسة فى منطقة المشرق العربى. تشعر بهذه الحساسية فى لبنان حيث بدا لى الاطمئنان واضحا لدى هؤلاء الذين يأملون فى أن يساعد الاتفاق الرباعى على خروج العلاقات اللبنانية ــ السورية من الشرنقة الثنائية إلى التعددية الرباعية، ولكن شعرت أيضا بقلق فى أوساط أخرى للسبب نفسه وأسباب متباينة.

ثانيا: إن تجمعا رباعيا آخر دعت إلى إقامته قبل سنوات غير قليلة الحكومة الأردنية بالتشاور مع الرئيس صدام حسين وكان يضم إلى جانب العراق والأردن مصر واليمن واعتبرته المملكة السعودية تهديدا مباشرا لأمنها ومصالحها وهو ما انتهت إليه الدبلوماسية المصرية بعد التوقيع على الاتفاقية حين تبين أن للاتفاق أهدافا لم يفصح عنها فى وقتها. أحبط المشروع ولكن بقيت أشباحه تخيم بظلالها على الدبلوماسية المصرية وبخاصة فى مراحل الحذر الشديد ومنها المرحلة التى تمر بها الآن.

ثالثا: إن العالم الغربى يسعى الآن إلى إخراج إسرائيل من أزمتها التى تسبب فيها تدخلها الهمجى ضد قافلة الحرية ويطلب من تركيا مساعدته فى ذلك والتوقف عن تعبئة الرأى العام العربى الإسلامى.

رابعا: إن خطوات عشوائية تخطوها الآن عواصم عربية معينة تسعى إلى تحجيم آثار «المجازفة الإقليمية» التى تخوضها تركيا واستطاعت بفضلها تحقيق مكانة متميزة فى السياسة الإقليمية، وكشفت بفضلها أيضا، جمودا، إن لم يكن، عجز سياسات خارجية لدول عربية عديدة. فى هذا السياق يمكن فهم جانب أو أكثر من جوانب الزيارة غير الموفقة التى قام بها الأمين العام للجامعة العربية إلى غزة.

التحليل المنطقى يقول إن الجامعة العربية، أو الدول المؤثرة فيها، فاجأها حجم «الحراك» الذى تشهده الساحة السياسية الدولية والإقليمية منذ انطلاق «المجازفة التركية»، فأقدم بعضها على اتخاذ ردود فعل أغلبها غير مدروس بعناية وبعضها غير مقنع بالمرة وبعض آخر هيمنت عليه ديماجوجية خالصة.

تارة يرى المراقب محاولات عربية للحاق بالقطار التركى الذى تحرك من أنقرة، وتارة يرى محاولات أخرى تسعى لوقفه أو للتقليل من أهميته وجدواه، وتارة ثالثة تسمع عن رءوس غرست نفسها فى الرمال فهى لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.
أشفق على الدبلوماسية التركية وبخاصة على مجازفتها الإقليمية من أمة عربية محبطة ونظام عربى منهك.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي