تصغرنى بعامين. اتصلت بها فى السابعة صباحا لتوثيق معلومة تقع ضمن ذكريات طفولتنا. ردت على اعتذارى عن الاتصال المبكر بأنها، كما حال من فى سنها، تستيقظ قبل بزوغ الشمس. سألتها، ثم سألت خالتها، وهى فى مثل عمرها، عن مناسبات فى طفولتنا تتذكر أنها أكثر من غيرها.
فاجأتنا بطلب أن تحكى لنا نميمة صغيرة تذكرها بحال الزمن الذى ننوى التحدث عنه. قالت إن أباها وأمها كانا يسمحان لها وهى طفلة بالنوم معهما فى غرفتهما بين الحين والآخر. فى أحد تلك الأيام أو فى ليلة من لياليها سمعت أباها يلفت نظر أمها إلى أنها تبالغ فى الإنفاق حين تقوم بدفع خمس عشرة جنيها قيمة شراء زبدة بلدية من الريف لزوم تخزين السمنة البلدية فى بيتنا من الربيع إلى ربيع آخر.
اجتمعت ذاكراتنا، أقصد ثلاثتنا، على مناسبات بعينها واختلفت أو تفاوتت على مناسبات أخرى. اجتمعنا على مناسبة تنفيذ «الندر». تأتى الشقيقتان، ابنتا أختى، فى الليلة السابقة ليقضيا النهار معنا من فجره. البيت يعج من مطلع النهار بفلاحات قدمن من الريف وشغالات بيتنا وبيت شقيقتى وبعض الجارات وشغالاتهن.
أمى فى المطبخ تنظم وتتأكد من أنواع وجودة البهارات التى توضع فى «الأزان» الكبير لتغلى مع قطع اللحم. تتذوق المرق بنفسها ولا بد أن تضيف إليه من صنف البهارات أو من الماء، وتعود إليها كل حين لتزداد ثقة فى جودة الطعم والنوع. نراها تترك المطبخ لتتأكد أيضا بنفسها من جودة أرغفة الخبز رغيفا رغيفا. تستبعد الرغيف المثقوب والرغيف الملتصق وجهه بظهره. تمر بين العاملات والقريبات المتطوعات أو نظير بركة تحل عليها وعلى أسرتها أو حسنة تحسب لها يوم القيامة، تمر عليهن توزع التعليمات وأهمها الحرص على جودة الرغيف من مظهره كما من محتواه، باعتباره وسيلة «الندر» للتقرب إلى الرب أو شكره عن طريق إشباع فقير أو تلبية رغبة محتاج. أتذكر أننا كأطفال كوفئنا على حسن سلوكنا بالسماح لنا بمرافقة الفريق الذى سوف يعهد إليه بمهمة توزيع الأرغفة على المستحقين الملازمين لمسجد وضريح السيدة زينب.
لم تكن سهلة، حسبما عرفت فيما بعد، مهمة تشكيل الفريق فالمنافسة كانت دائما حامية بين المتقدمين لقيادة أو عضوية هذا الفريق لما يتبع المهمة من ثواب عظيم. أتذكر أننى حظيت بهذا الشرف مرتين فى عام واحد، كانت المرة الثانية عندما حلت فى بيت جدتى مناسبة «ندر» آخر، وكان هدفنا مسجد سيدنا الحسين وجواره المترامى.
• • •
أتذكر أيام الانتخابات للبرلمان. كانت مناسبة للصبيان من الأطفال للهو وتقليد هتافات الكبار. البنات لا يشاركن فى مؤتمرات انتخابية ولا فى مسيرات المرشحين. أتذكر آخر انتخابات سياسية ليس فقط لأنها انطلقت من «حوش» مدرستى ولكن أيضا لأنها أثارت أسئلة أمام عقلى المتواضع. عدت ذلك اليوم لأسال والدى وهو خبير العائلة الممتدة من الناحيتين، ناحية الأم وناحية الأب، خبيرها الوحيد فى شئون السياسة والأحزاب وأسماء الكبار. سألته عن السبب وراء استخدام الحمار الذى كان يركبه صباح ذلك اليوم مرشح حزب الوفد فى مسيرته ومن خلف الحمار يمشى عشرات المراهقين والشبان يهتفون باسم المرشح، لماذا لم يمش بين الناس، أو حمله على الأعناق مريدوه. غضب الوالد. راح ظنى إلى أنه غضب لقصة الحمار قبل أن يصدر تحريما بأن لا أنضم لمثل هذه الاجتماعات السياسية والحزبية، وألا أخضع لإغراءات المروجين لها. هو نفسه كان وفديا أو صديقا لوفديين كبار.
• • •
عدت أسأل رفيقتى طفولتى عن مناسبات كانت لهما أدوار فيها. توافقتا على مناسبة سنوية تأتى فى أعقاب نهاية السنة المدرسية واشتداد حرارة الصيف فى القاهرة. كانت الاستعدادات للسفر إلى المصيف تبدأ قبل اليوم المحدد بأيام غير قليلة. تقول إحداهما أنها تتذكر جيدا أن جدتها، التى هى أمى، كانت تفضل اصطحاب أدوات مطبخها، مثل الحلل والطاسات والأطباق والملاعق والشوك والسكاكين، كل ما تعودت عليه واطمأنت إليه وبخاصة (وابور البريموس). فضلت دائما التوصية بتخزين الأرز والمكرونة والسمن البلدية بحيث تكون جاهزة للسفر معنا فتوفر عليها وعلى ابنتها وحفيدتيها زيارة الأسواق عند الوصول للمصيف.
تذكرنى رفيقتى الأخرى بأنهما مع شقيقتها الكبيرة ولسعادتهن كن يرتدين ملابس البحر تحت ملابس الخروج التى يعتزمن السفر بها مع الحقائب والزكائب والحمالين والمساعدات والمساعدين، أى ضمن الفوج الأول من طلائع العائلة، الطلائع المقرر لها السفر فى قطار الصحافة الذى كان يغادر محطة مصر الساعة الثالثة صباحا. يا للفرحة!. كل هؤلاء يسبقون الكبار فيرتبون المكان قبل وصولهم وقد يكون من نصيبهم «غطسة» فى البحر قبل وصول العائلة وبالتأكيد قبل نزول المصيفين إلى الشاطئ فى هذا الصباح الباكر.
• • •
كنا ثلاثة، تخلت عنا رابعتنا عندما استجابت إلى دعوة الداعى قبل شهور قليلة فقررت الرحيل من هذه الدنيا. اجمع ثلاثتنا على المناسبات التى كانت تجمعنا بالبهجة كثيرة منها مثلا سبت النور من كل عام. تأتى بائعة البيض يوم الجمعة تحمل سبتا مليئا بالبيض تشترى أمى أكثره أو كله. يسلق قبل النوم لنستيقظ صباح السبت مبكرا ونباشر عمليات التلوين والرسم، كثيرا ما كنا نرفض تدللا أكل البيض وقد تلون. أو نريد لليوم أن يطول بنا فى صحبة البيض الملون.
• • •
ذكرتنى ابنة أختى بمناسبات عائلية مثل ليلة النص من شعبان وليلة الاحتفال بمولد النبى وليلة «النص» من شعبان وليلة القدر، وكلها مناسبات البطل فيها أمى بإبداعاتها وتنويعاتها فى اختيار الضحايا من الطيور والدواب لأغراض «التوسعة» والتوزيع. ناهيك عن ليلة عيد الفطر حيث تعبأ جميع الإمكانات البشرية والمادية لتوضع تحت تصرفها لإعداد كعك العيد، ليلتها يتولى الصغار تنفيذ مهمة رمزية وهى حماية صاجات الكعك فى الطريق إلى الفرن ومن الفرن للبيت محمولة على رأسى الشغالتين سيدة وفاطمة.
• • •
تذكرنا أيضا ليلة سهر وسمر لا تنسى، إنها ليلة تحويل أقماع الزبدة الجاموسية الواردة إلينا من الريف إلى سمنة بلدية. تتخلل السهرة وجبات اختيارية من البيض المقلى فى «المورتة» التى جرى نزعها من فوق سطح السمنة الساخنة قبل أن تبرد. لم يفت على أمى فى اليوم التالى أن يكون الساندوتش اليومى الذى تعودنا على حمله يوميا مع كتبنا وكراساتنا وقد خلا من القشدة البلدية بالسكر لتحل محلها «المورتة».
• • •
كانت طفولة ممتعة. عبارة رددناها مرارا قبل أن يعود كل منا إلى بيت لا طفل فيه كبير أو صغير ولا مناسبة تجمعنا وإياهم إلا ما ندر.