كانت السبيل إلى الجامعة عبر مكاتب التنسيق مباشرة بغير تعقيد. كان على الطالب الذى اجتاز المرحلة الثانوية، وحاز شهادة الثانوية العامة أن يملأ صفحة بعدد من الطوابع، التى تحمل أسماء الكليات الراغب فى الالتحاق بها على سبيل الترتيب. ما زال الأمر كذلك لقطاع معتبر من الطلاب، لكن معضلة ازدحام السوق الجامعية بعدد كبير من الجامعات الخاصة المصرية والأجنبية، عقّدت المسألة إلى حد بات يؤرق الأسرة كلها بأكثر مما كانت تفعل فترة امتحانات الثانوية العامة ذاتها.
قبل أن يتخرّج الشاب أو الفتاة من المدرسة عليهما البحث فى أسماء الجامعات ذات التخصصات المتنوّعة والجديدة وغير المفهومة (بالنسبة لكثير من أولياء الأمور). ما إن تنتهى مرحلة تصفية أفضل الجامعات التى تناسب قدرات وإمكانات الطلاب، تتعرّض عملية البحث إلى صدمة عنيفة باستخدام معيار المصروفات السنوية فى تصفية الجامعات المناسبة لدخل وميزانية الأسرة. الواقع المرير لا يبقى من تلك الجامعات الاستثمارية سوى القليل جدا مما يناسب ميزانية الأسر المتوسطة، بل إن بعض نظم التدريس الأكثر آدمية فى جامعاتنا الحكومية كـ(نظام الساعات المعتمدة) التى تسمح للطالب بتلقى تعليم ذى جودة بين عدد مقبول من الطلاب، وبإمكانات وأدوات حديثة.. أصبحت تكاليفها أكبر من قدرة الأسر المتوسطة العليا فى المجتمع المصرى، بما يترك أمام تلك الأسر والتى تليها منزلة خيارات محدودة للغاية.
لكن الموضوع يتخطى التكلفة فقط إلى ضرورة إعمال معيار موضوعى للمفاضلة بين الجامعات. فهناك عدد من التصنيفات الدولية التى تعمل على ترتيب الجامعات حسب جودتها، ووفقا لمعايير تصنيف مختلفة. وكذلك يتم تصنيف التخصصات داخل تلك الجامعات وترتيبها عالميا بما يتيح لراغبى الالتحاق بها التأكد من تلقى تعليم ذى جودة مرتفعة، وشهادة ترسل إشارات إيجابية لسوق العمل، تساعد الخريج على المنافسة بقوة بين النظراء.
• • •
الأزمة الحقيقية التى مررت بها عن تجربة شخصية، هى المغالاة الشديدة فى تقدير المصروفات الجامعية لمعظم الجامعات القائمة فى مصر، إذا ما تم اتخاذ معيار التصنيف الدولى كأساس لتبرير تلك المغالاة. فمن المنطقى أن جامعة تطلب فى الفصل الدراسى الواحد ما يقرب من نصف مليون جنيه، أن يكون ذلك نابعا من توظيفها لصفوة هيئات التدريس، وإنفاقها بسخاء على رواتبهم، فضلا عن إنفاقها الكبير على تشجيع العملية البحثية وتطوير المقار التعليمية والإدارت الفنية والأدوات ومعايير القبول...
إلى غير ذلك من أمور لابد لها أن تنعكس بعد حين على التصنيف الدولى لتلك الجامعات، بما يجعل طلبات الالتحاق بها من داخل البلاد وخارجها أكبر من طاقتها الاستيعابية، بما يضيف إلى مبررات رفع المصروفات مبررا جديدا يساعد على تصفية المتقدمين وفقا للملاءة المالية، فضلا عن الكفاءة والتأهيل العلمى والرياضى.
لكن الواقع فى مصر مختلف تماما؛ فالمصروفات الدراسية لمعظم الجامعات الحديثة تشبه إلى حد كبير أسعار الإيجارات فى عقارات الساحل الشمالى «الشرير» (على حد وصف روّاد التواصل الاجتماعى تمييزا له عن الساحل «الطيب» الذى ينتهى عند حدود بعض القرى السياحية ذات التكاليف والأسعار المجنونة) . المقارن لتكاليف الإقامة فى بعض وحدات الساحل الشرير، والسفر إلى الخارج فى أعظم الوجهات السياحية فى العالم، والتى تحظى بتصنيف عالمى ذى شأن، يجد أن تكلفة ساحلنا أكبر بكثير، حتى إذا أخذنا فى الاعتبار تكلفة الطيران والتأشيرة والانتقالات!. كذلك الحال فى جامعاتنا الخاصة التى تطلب ملايين الجنيهات كمصروفات دراسية لنيل شهادة جامعية، ليس لها أى تصنيف يذكر على مستوى العالم! بل إن بعض الجامعات فى الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا تتقاضى مصروفات أقل من تلك الجامعات، رغم احتلال الجامعات الغربية لمكانة عالمية معتبرة، ومنحها أفضلية استثنائية لخريجيها فى أسواق العمل الدولية!
أى إن المستثمر الذكى، الذى يقترض ويستدين ويقسو على نفسه وأهله من أجل توفير قيمة مصروفات أبنائه الجامعية، مستثمرا فيهم كموارد بشرية، عليه أن يقارن بين استثمار محلى مرتفع التكلفة للغاية، بعائد مشكوك فيه مستقبلا نتيجة معاناة خريج الجامعة المحلية فى سوق العمل، وبين استثمار فى الخارج (لمن استطاع إليه سبيلا طبعا) لكنه مضمون العائد أو على الأقل أعلى وأضمن عائدا من نظيره المحلى.
لا يختلف الوضع كثيرا بعقد تلك الجامعات المحلية لاتفاقات توءمة وشراكة مع جامعات أجنبية، وذلك لأن تلك الاتفاقات لا تجعل الجامعة المحلية صنوا فى التصنيف لتلك التى عقدت معها الاتفاق فى الخارج. ناهيك عن كون كثير من الجامعات المختارة فى الخارج، لها تصنيف عالمى أقل من تصنيف جامعاتنا الحكومية شبه المجانية!. إذا كان مشروع إنشاء وإدارة جامعة لا يصح أن يكون قرارا استثماريا بحتا، يخلو من أصول وأخلاقيات الرسالة التعليمية المنتخبة لأفضل العناصر الطلابية، ولو كانت غير قادرة ماديا، فإن قرار الأسرة التى ترغب فى تعليم أبنائها أفضل تعليم ممكن، هو قرار استثمارى من الدرجة الأولى، ولكن بمفهوم رحب للاستثمار، يتسع ليشمل الاستثمار فى المورد البشرى والطاقات الكامنة فى الأجيال الصاعدة. من هنا كان لزاما على كاتب هذه السطور أن ينصح نفسه والقرّاء باتخاذ هذا القرار الاستثمارى بصورة رشيدة محققة لأفضل عائد على استثمارهم الأعظم، فى أفضل أصل منحهم الله إياه. عندئذ يجب أن تكون المفاضلة بين الجامعات التى يجوز الالتحاق بها مبنيا على معايير تصنيف جادة. ولأن السلة التى يتم الاختيار منها كبيرة جدا بما لا يسع إنسانا أن يختار منها بجهد منفرد، فقد نشأت تصنيفات دولية لهذا الغرض، وما عليك سوى أن تستكشف أفضلها سمعة عبر محركات البحث، وتبحث عن التخصصات المناسبة داخل الجامعات لترى ترتيبها المحلى والعالمى، قبل اتخاذ قرار الاستثمار. كما ينبغى أن يشارك الطالب والطالبة فى عملية الاختيار بشكل فاعل، دون أن يخل هذا بحقهما الحصرى فى اختيار تخصص ومهنة المستقبل.
أعرف أن الكثيرين من القرّاء لن يلتفتوا إلى تلك النصائح بعدما ضاقت عليهم الاختيارات فى عدد محدود جدا من البدائل المناسبة ماديا، لكن المفاضلة بين تلك البدائل المحدودة تتطلب عملية اختيار مشابهة، والمنح الدراسية للنوابغ يجب أن تستكشف بمنتهى الدقة. بل إن هذا المقال إذا تحققت الغاية منه ربما أدى إلى ترشيد الجامعات الخاصة المحلية لأسعارها غير المنطقية، وذلك لتتناسب مع تصنيفها المحلى والعالمى (من ناحية) وأن تعكس بشكل واقعى التكلفة الفعلية التى تتحمّلها تلك الجامعات لأداء رسالتها. فمن غير المعقول أن تسجل مستويات الأجور فى كثير من تلك الجامعات حدا متدنيا بالمقارنة مع جامعات أخرى متواضعة المصروفات! بل إن الكثير من مبررات رفع قيمة المصروفات غائبة تماما عن تلك المؤسسات حديثة النشأة، والتى لم يتخرج منها أجيال يمكن الحكم على مهاراتهم ومؤهلاتهم.
معايير التصنيف بدورها ليست كلها معبّرة عن حقيقة الجامعة والتخصص المراد الالتحاق بهما. من التفاصيل التى تتيحها مؤسسات التصنيف على مواقعها، الدرجة التى تحققها الجامعة والتخصص فى مختلف معايير التصنيف. لا عجب إذن أن تجد جامعة القاهرة (المصنفة الأولى محليا) قد تقدّمت مراكز كثيرة أخيرا فى مختلف التصنيفات الدولية، دون مبرر ملموس بالنسبة للمواطن العادى. بالدخول فى تفاصيل التصنيف QS world university ranking يمكن أن تكتشف أن جامعة القاهرة قد تقدمت كثيرا فى معيار الاستدامة، وهو معيار حديث نسبيا ويمكن السيطرة عليه بقرارات إدارية سريعة وعاجلة، لكن استثمارك فى ولدك أو ابنتك يقتضى منك أن تبحث أكثر فى التفاصيل التى تعنيك لتختار أفضل مؤسسة متاحة. التصنيف المشار إليه تحتل فيه جامعة القاهرة المركز 371 عالميا بينما تحتل الجامعة الأمريكية المركز 415 بين 1500 مؤسسة تعليمية جامعية.
• • •
التعليم هو الطريق الوحيد للخروج من أزمتنا الاقتصادية بشكل مستدام. التعليم هو أيضا طريق الشفاء من الأمراض الاجتماعية المزمنة التى تنعكس على أسلوب التفكير والإدارة ونمط النمو السكانى ومدى تقبّل المجتمع للتطور والتغيير. إذا كانت الأسرة تدخّر للاستثمار فى العقارات والذهب والسيارات.. والبعض يدّخر فقط لأداء عطلته الصيفية فى الساحل الشمالى! فالاستثمار فى تعليم الأبناء هو الأعظم إيرادا والأحق بالتضحية والاستدانة إذا لزم الأمر.