ليس كما يعتقد الملايين أن العصر الذرى قد بدأ بأينشتاين أو أوبنهايمر، بل إن التاريخ له تفاصيله ووقائعه وأبعاده، العصر الذرى له جذور ممتدة بدأت فصولها فى ألمانيا، واكتملت فى الولايات المتحدة، وجرت وقائع الفصل الأخير فى اليابان.
عندما تأسس معهد القيصر فيلهلم للفيزياء بجامعة برلين، كان ضمن العلماء الذين درسوا وعملوا فيه ماكس بلانك، وماكس بورن، وفيرنر فون هايزنبيرج، وليو زيلارد، وليز مايتنر، وألبرت أينشتاين الذى عمل كباحث بالمعهد منذ 1914 وحتى مغادرته ألمانيا إلى الولايات المتحدة عام 1933.
وفى عام 1939 اكتشف عالما الفيزياء الألمان أوتوهان وشترسمان بأبحاثهما أن انشطار ذرة اليورانيوم يولد كمية هائلة من الطاقة التى من الممكن أن تكون مدمرة، وأرسل أوتوهان بذلك إلى زميلته فى معهد القيصر فيلهلم الفيزيائية ليز مايتنر، والتى كانت قد غادرت ألمانيا إلى السويد حيث يعيش ابن شقيقتها الفيزيائى أوتو فريتش.
وبخبرتهما قاما بعمل الحسابات اللازمة وإجراء عدد من التجارب التى أكدت لهما أن أوتوهان وشتراسمان قد توصلا بالفعل إلى إحداث الانشطار النووى، فسافر أوتو فريتش على الفور إلى بريطانيا، حيث قدم مذكرة بذلك إلى السلطات البريطانية، وعلى الفور تم ضم أوتو فريش إلى البرنامج الذرى البريطانى المعروف بمشروع سبائك الأنابيب.
فى ذلك الوقت على مستوى أوروبا كان هناك سباق علمى بين رذرفورد فى بريطانيا، وإيرين جوليو ــ كورى فى فرنسا، وإنريكو فيرمى فى إيطاليا، وفريق أوتوهان فى ألمانيا، فى البداية كان السباق العلمى بين هؤلاء العلماء سعيا للحصول على جائزة نوبل.
فى أبريل 1939 قام البروفيسور فيلهلم جروث بجامعة هامبورج برفع تقرير إلى وزارة الحرب الألمانية يوجه فيه عناية المسئولين إلى التطبيقات العسكرية الممكن الاستفادة بها من الانشطار النووى والتفاعل النووى المتسلسل، وتم على الفور تصعيد التقرير إلى مجلس أبحاث الرايخ الألمانى، ومع انتقال مثل هذه المعلومات إلى الدوائر السياسية العليا فى ألمانيا وبمباركة من مستشار ألمانيا آنذاك أدولف هتلر.
تم تقسيم المشروع إلى ثلاث وحدات أساسية هى وحدة اليورانيوم وإنتاج الماء الثقيل، وحدة فصل نظير اليورانيوم، ووحدة المفاعل الذرى، وضم المشروع فى مجمله 70 عالما وعرف باسم نادى اليورانيوم، وأخذ العلماء الألمان على الفور فى تطوير أبحاثهم بتركيز وتكتم شديد.
فى فبراير 1942 قدم عالم الفيزياء الألمانى هايزنبرج محاضرة أمام عدد من مسئولى الرايخ الألمانى عن الطاقة المتولدة من الانشطار النووى واستخدامتها العسكرية الممكنة.
• • •
أخذت الأحداث منحى آخر، عندما قامت السلطات الألمانية بإيقاف تصدير اليورانيوم من مناجم جاشيمستال فى تشيكوسلوفاكيا المحتلة آنذاك، فاسترعى ذلك انتباه أجهزة استخبارات الحلفاء.
ومع تعيين هايزنبرج أستاذا لكرسى الفيزياء فى معهد القيصر فيلهلم بجامعة برلين، سافر هايزنبرج خارج ألمانيا عدة مرات لتقديم المحاضرات، وآخرها كان فى سويسرا حيث كان هدفا للاغتيال من جانب مكتب الولايات المتحدة للخدمات الاستراتيجية، الذى أرسل أحد عملائه لاغتيال هايزنبرج، ولاسيما أن الأخبار كانت تتوارد لأجهزة مخابرات الحلفاء عن التقدم فى البرنامج النووى الألمانى.
بعد نجاته من محاولة الاغتيال، نقل هايزنبرج وزملاؤه من العلماء والباحثين إلى عدد من معامل الأبحاث السرية فى منطقة الغابة السوداء فى جنوب ألمانيا، حماية لهم من تصاعد قصف الحلفاء على المدن الألمانية.
وعلى جانب الحلفاء تم إيفاد مجموعة علماء فيزياء من بريطانيا إلى الولايات المتحدة لتوحيد جهودهم البحثية، وهناك التقى ليو زيلارد مع أينشتاين زميله القديم وقدم له شرحا وافيا عن المستوى المتقدم الذى بلغته الأبحاث العلمية عن اليورانيوم.
وأشار زيلارد فى حديثه مع أينشتاين إلى أنه يمكن من خلال الانشطار الذرى أن يبدأ تفاعل ذرى متسلسل ينتج عنه كمية هائلة من الطاقة، الأمر الذى يجعل من تصنيع القنبلة الذرية ممكنا، والاحتمال الكبير أن تتوصل ألمانيا إلى تصنيع القنبلة قبل غيرها من الدول.
اتفق زيلارد وأينشتاين على ضرورة التحرك السريع والتحدث فى الأمر مع أحد مستشارى الرئيس روزفلت، الذى اقترح بعد سماعه تلك الأخبار من زيلارد أن يقوم أينشتاين بكتابة رسالة إلى الرئيس ووعد بأنه سوف يوصلها له شخصيا.
أعد ليو زيلارد مع ألبرت أينشتاين الرسالة التى عرض فيها تطور أبحاث الذرة وما وصلت إليه من مرحلة حاسمة، وحث الرئيس الأمريكى روزفلت على تبنى تأسيس برنامج أبحاث ذرى أمريكى، وقد وقع أينشتاين الرسالة فى أغسطس 1939 وسلمت إلى الرئيس روزفلت فى أكتوبر 1939.
نص رسالة ألبرت أينشتاين إلى الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت:
سيدى: لقد وصلت إلىَّ بعض نتائج أبحاث كل من انريكو فيرمى وليو زيلارد، والتى تقودنى إلى الاعتقاد بأن عنصر اليورانيوم يمكن تحويله إلى مصدر مهم للطاقة فى المستقبل القريب، وهذا الأمر يدعو إلى الترقب والعمل السريع من قبل الإدارة الأمريكية، ولذلك أعتقد أنه من واجبى أن ألفت انتباهكم إلى الحقائق والتوصيات التالية:
خلال الشهور الأربعة الأخيرة أصبح من المحتمل إمكان عمل تفاعل نووى ينتج عنه طاقة ضخمة، ويبدو الآن من المؤكد أن هذا التفاعل يمكن إنجازه عمليا فى المستقبل القريب، وهذه الظاهرة الجديدة ستقود إلى صناعة قنابل قوية جدا ذات قوة تدميرية هائلة.
• • •
بناء على ما سبق، قرر الرئيس روزفلت تشكيل لجنة أبحاث اليورانيوم، وتم حشد عشرات العلماء والباحثين، كثيرون منهم من اليهود الذين غادروا أوروبا إلى الولايات المتحدة، وعملوا جميعا فى إطار مشروع يحمل اسم رمزى هو مشروع مانهاتن وهو المشروع الأمريكى السرى للبحث والتطوير لإنتاج أول قنبلة ذرية، وتعاونت فيه مع الولايات المتحدة كل من بريطانيا وكندا وتولى الإشراف العلمى عليه عالم الفيزياء النووية روبرت أوبنهايمر.
كان أوبنهايمر طالبا متميزا أثناء حياته الجامعية، وبعد تخرجه من الجامعة سافر إلى أوروبا لدراسة الفيزياء الحديثة التى لم تكن متاحة فى هذا الوقت فى الولايات المتحدة، فتم قبوله كطالب دراسات عليا بجامعة كامبريدج.
بعدها سافر إلى ألمانيا للدراسة بجامعة جوتنجن التى كانت أفضل جامعة لدراسة الفيزياء فى العالم فتتلمذ على يدى عالم الفيزياء الألمانى الشهير ماكس بورن، ومن جامعة جوتنجن حصل أوبنهايمر على درجة الدكتوراه وهو فى الثانية والعشرين، وبعودته إلى الولايات المتحدة كعالم أسس المدرسة الأمريكية للفيزياء بجامعة كاليفورنيا بيركلى.
بدأ أوبنهايمر العمل فى مشروع مانهاتن فى عام 1939 ومع مرور الوقت ضم المشروع أكثر من 130 ألف فرد، وجرت عمليات البحث والتطوير فى أكثر من 30 موقعا فى الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وتكلفت ما يقارب اثنين ونصف مليار دولار.
وبعد ستة سنوات من العمل والأبحاث وصل مشروع مانهاتن إلى مراحله الختامية بالإعداد لتجربة أول تفجير ذرى، وتم ذلك فجر يوم 16 يوليو 1945 حيث أُسقطت القنبلة الذرية التجريبية الأولى، أما الفصل الحزين الأخير فقد جرت أحداثه فى 6 أغسطس فى هيروشيما وفى 9 أغسطس فى ناجازاكى، بعدها سجل التاريخ أن البشرية قد دخلت العصر الذرى وتذوقت أهواله.