بعد أن استتبت الأمور المالية لمحمد على باشا، وبعد أن عضد حكمه لمصر ووضع يده على مقاليد أمورها، وحصل على مكانة عالية لدى الباب العالى، فقد قضى ما تبقى من عمره فى تحديث مصر ورسم شخصية متمايزة لها عن الأقطار المغايرة. ويلاحظ هنا أن محمد على قد سبق الدولة العثمانية فى الفطون إلى أهمية التحديث والتنمية اقتضاء بالنمط الغربى، ولاسيما الفرنسى الذى تأثر به فى صباه وشبابه على النحو الذى أوضحته فى المقالات السابقة، فأصبحت مصر فى عهده واحدة من أكثر الأقطار تقدما فى المنطقة، وذاع صيت محمد على وابنه ابراهيم لدى الدول الأوروبية وفى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام.
***
ما يعنينا هنا ليس فقط تسلسل الأحداث، ولكن استخلاص أهم الركائز السياسية التى اعتمدها محمد على لتحديث البلاد، ويمكن هنا رصد سبع استراتيجيات اتبعها محمد على فى عملية التحديث أهمها (لمزيد من التفاصيل، انظر إلياس الأيوبى، مرجع سبق ذكره، الصفحات من (76 إلى 94):
أولا: أنشأ محمد على الدواوين التى ضمت الخبراء والأعيان ليساعدوه فى الحكم المحلى وإدارة الشئون الداخلية للبلاد، كما قام بإنشاء نواة السلطات التنفيذية الحديثة بإنشاء وزارة للحربية تكون مختصة بالشئون الدفاعية الخارجية وأخرى للداخلية تكون مسئولة عن الأمن الداخلى للبلاد، بينما استأثر هو بالشئون الخارجية والسياسة المالية والأشغال الداخلية بما فيها الإشراف على البنية التحتية للبلاد.
كذلك فقد قسم البلاد إلى 64 قسما، وعين على كل قسم ناظرا للقسم وهو ما يعادل المحافظ الآن، وكل قسم بدوره انقسم إلى مراكز، وعين على كل مركز مأمورا للمركز، وبدورها انقسمت المراكز إلى مديريات وعين على كل منها مديرا، أما المديريات فقد شملت العديد من القرى والنجوع ترأسها «مشايخ» وكانت مهمة كل منهم جمع الضرائب وتنظيم التجنيد بين أبناء هذه القرى. وهكذا فقد بدأ محمد على أول تقسيم إدارى وسياسى فى تاريخ مصر الحديث.
ثانيا: قام محمد على بتحديث الجيش والتخلص من الجنود العاملين لبعض الوقت، واعتمد الجندية النظامية، وحرص على أن يكون بين الجنود تنوع من الملل والنحل، للتأكيد على تحديث الجيش وانتمائه لمصر دون غيرها. كذلك فقد قام محمد على بتحديث تدريبات الجيش البدنية والحربية، كذلك فقد قام ببناء عمارة (جيش بحري) متقدم وقام بتزويد الجيش بـ 1500 مدفع، ونشرها على السواحل المصرية.
ثالثا: قام محمد على بتحديث التعليم والمعارف، وكانت أولى الخطوات هى تحديث المناهج. بحيث لم يتم اقتصار المناهج على العلوم الشرعية كما صارت الأمور قبله، ولكن تمت إضافة إليها العلوم الاجتماعية والتطبيقية، ولم يكتف محمد على بالكتاتيب والجوامع، حيث لم يوجد قبل عهده مدارس سوى تلك المخصصة للنخب والمقيمين الأجانب، فقام محمد على بإنشاء المدارس الابتدائية والثانوية والعليا والخصوصية (الفنية). ففى عهده تم إنشاء 47 مدرسة ابتدائية فى كل المدن والأقسام الرئيسية (المحلة الكبرى، زفتى، المنصورة، الزقازيق، الجيزة، بنى سويف، الفيوم، المنيا، وأسيوط وسوهاج، وإسنا.. إلخ).
أما المدارس الثانوية والعليا والخصوصية فقد بنى منها 24، منها مدرسة قصر العينى، ومدرسة اللغات (الألسن)، ومدرسة المعادن، ومدرسة الطب البيطرى، والطب والتوليد والموسيقى والفنون والصنائع... إلخ.
وتشير المصادر التاريخية ومنها عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»، فى طبعته الخامسة الصادرة عن دار المعارف فى 1989 إلى أن محمد على وجه بالتعليم الإجبارى على بعض الطلاب المختارين من الريف والمدن، حيث وصل العدد فى البداية فى المدرسة الواحدة إلى 50 تلميذا ثم تم زيادة الأعداد لاحقا إلى 150 طالبا عين لهم أفضل المدرسين وكانت تلك بداية ونواة نخبة مصرية متعلمة ومثقفة ساعدت مصر لاحقا فى بسط ريادتها فى العالم العربى وأفريقيا.
رابعا: قام محمد على بنهضة إنشائية واسعة بطول البلاد وعرضها، شملت إنشاء المصانع والمحاجر والسدود والجسور، بالإضافة إلى إنشاء الترع والقناطر. كذلك فقد قام محمد على ببناء العديد من السرايا ومنها سراى رأس التين وسراى شبرا، وسراى قصر النيل، كما قام بإنشاء المتنزهات والحدائق العامة، وقد ظلت كل هذه البنى باقية حتى بداية عهد الجمهورية شاهدة على التطور الكبير فى عصر الباشا.
خامسا: بعكس المماليك، انفتح محمد على بقوة على الغرب، حيث حرص على دعوة الأوروبيين المجيء إلى مصر والاستثمار فيها، وأنشأ لأولادهم المدارس، كما قام أيضا بتنظيم سفر المصريين إلى الغرب للتعرف عليه والاستفادة من علمه وتقدمه. ففى كتابه «البعثات العلمية فى عهد محمد على ثم فى عهد عباس حلمى»، الصادر عن مطبعة صلاح الدين بالإسكندرية (لم أستدل على تاريخ النشر) رصد الأمير عمر طوسون عدد البعثات العلمية التى تم إرسالها فى عهد محمد على إلى الخارج وبلغت خمس بعثات، كانت الأولى عام 1813 إلى إيطاليا لتعلم الفنون العسكرية وبناء السفن، والطباعة والهندسة، والثانية عام 1818 إلى فرنسا لإتقان الفنون الحربية والبحرية، ثم كانت البعثة الثالثة إلى فرنسا أيضا عام 1826 لتعلم فنون الإدارة والسياسة والفنون الحربية والعلوم الهندسية، وكانت هذه البعثة هى الأكبر حيث شملت 65 طالبا تم إرسالهم على عدة دفعات.
ثم كانت البعثة الرابعة إلى فرنسا والنمسا وإنجلترا لتعلم الصنائع المختلفة من سراجة ونقش ودهان ونسج وطبع السيوف وإنشاء السفن والأجواخ، بالإضافة إلى تعلم فنون الطب الحربى (جراحات مصابى الحروب)، وقد بلغ عدد أعضاء هذه البعثة 54 طالبا، ثم بعثة خامسة إلى فرنسا عام 1844 وكانت تشمل عددا كبيرا من المعلمين، بالإضافة إلى طلاب العلوم الحربية. وهكذا فقد أرسل محمد على عشرات المبتعثين لنقل التجربة الأوروبية بكل تفاصيلها إلى مصر، ويمكن الرجوع للمرجع السابق (متاح إلكترونيا)، لمعرفة مدى دقة القوانين واللوائح التى نظمت عمل هذه البعثات وما يمكن للطلاب فعله أو الامتناع عن فعله، وكذلك جداول المذاكرة والامتحانات والجوائز التى حصل عليها المبتعثون.. إلخ.
سادسا: حاول محمد على أيضا إنشاء قوانين لتنظيم الحياة المدنية والمساواة بين المواطنين وحمايتهم من أى جور أو تعدٍ عليهم لطالما احترموا القانون ولم يرتكبوا الجرائم، ورغم ذلك فقد بدأ تنفيذ هذه القوانين فى وقت بدأ المرض والشيخوخة يضرب محمد على باشا فلم تطبق هذه القوانين بإحكام، فاستمر طغيان علية القوم وأعيانهم على المواطنين البسطاء بين الضرب المبرح والقتل وسلب الحريات، ولم تكن توقع عليهم أى عقوبات تذكر، اللهم إلا مبالغ مالية ضئيلة لم تردعهم عما يقومون به.
سابعا: حرص محمد على أيضا على تمييز الشخصية المصرية وتمايزها عن هويات الشعوب المجاورة وقد حرص على تعضيد هذه الهوية فى خطب المساجد وفى المناهج التعليمية وكذلك فى الجندية والحروب التى خاضها جيش محمد على فى السودان وفى سوريا وفى فلسطين وفى اليونان. والحقيقة أن الحروب الناجحة التى خاضها محمد على فى هذه الأقطار قد عضدت هذه الهوية أو لو شئنا لنقل القومية المصرية على نحو لم يحدث لأى قطر آخر تابع للخلافة العثمانية، بل إن القومية التركية نفسها لم تتشكل بشكل متمايز سوى بعد ذلك بنصف قرن على الأقل.
***
كما هو متوقع، لم يدم الود طويلا بين الباب العالى وبين محمد على، وخصوصا بعد دخول الأخير إلى حلب بعد أن سيطر على كل مدن الساحل الفلسطينى، حيث أرسل الباب العالى جيشا لمواجهة جيش محمد على، إلا أن جيش الأخير قد أبلى بلاء حسنا وهزم الجيش العثمانى فى معركة فقد فيها الجيش المصرى 100 قتيل و100 جريح، فى مقابل ألفى قتيل من الجيش العثمانى وآلاف الجرحى، مما دعا الباب العالى إلى الاستعانة بحلفائه فى أوروبا من أجل إجبار محمد على على التراجع لاحقا.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر