أيام قليلة تفصلنا عن قمة الأطراف COP 27 المزمع إقامتها فى مدينة شرم الشيخ. كثير من الفعاليات والمؤتمرات تعقد أسبوعيا وأحيانا يوميا تمهيدا لهذا الحدث الكبير. كذلك اختصت بعض المراكز البحثية موضوع الاستدامة وقمة المناخ بالكثير من ورش العمل والإصدارات المتخصصة، التى تناولت الأمر من أبعاد مختلفة. لكن الملفت أن تلك الشراذم من الفعاليات والجهود لا تجد وعاءً واحدا ينظّمها، ولا تجد مؤسسة متخصصة لتعبئتها جميعا فى إطار الإعداد الذكى لقمة المناخ المرتقبة.
كان لى شرف المشاركة متحدثا ومنسقا ومتابعا لعدد من الموضوعات والتعهدات المتعلقة بأسواق المال فى قمم الأطراف 21 و22 و23. كنت فى ذلك بين مدعو من قبل بورصة الدار البيضاء (لمتابعة التزامات قمة COP21 والإعداد والمشاركة لقمة COP22 فى مراكش)، أو ممثل للبورصة المصرية كما هى الحال فى فعاليات COP23 التى عقدت فى مدينة بون بألمانيا، والتى كتبت على أثرها السطور التالية المنشورة ضمن مقال بجريدة الشروق فى 21 نوفمبر 2017:
«تهون إذن كل المؤشرات الاقتصادية والمالية، وتتحول شاشات البورصات فى العالم إلى مزحة سخيفة إذا لم يتم ترجمة قراءاتها إلى واقع ملموس فى الاقتصاد الحقيقى، وهو مسعى مبادرة البورصات المستدامة الأصيل. مجالات التمويل الأخضر والأزرق أصبحت احتياجاتها تقدر بالتريليونات، ٩٠ تريليون دولار مطلوبة لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ والموقعة فى الاجتماع الحادى والعشرين للقمة COP21 وعلى الرغم من تواضع هدف القمة الرئيس والرامى إلى عدم ارتفاع حرارة الأرض بأكثر من درجتين مئويتين بنهاية القرن ــ مقارنة بنحو ١٫٥ درجة مئوية فى عصر ما قبل الثورة الصناعية ــ فإن هذا الهدف لم يتحقق، وهو ما تم رصده بكثير من الأسف فى قمة مراكش العام الماضى. ضاعف من صعوبة تحقيق ذلك الهدف إعلان الولايات المتحدة «الترامبية» اعتزامها الانسحاب أخيرا من اتفاقية باريس، وهى تمثل منفردة أكثر من ٢٠٪ من مصادر ارتفاع الحرارة، الأمر الذى ألقى بظلال كئيبة على قمة الأطراف المعروفة بقمة المناخ هذا العام، وانعكس سلبا على تمويل الفاعليات ومستوى الحضور فى كثير من الاجتماعات وورش العمل المنعقدة، وأعطى إشارة سلبية للغاية إلى جهود الحفاظ على الكوكب من دمار محتم، لو استمر الاحتباس الحرارى يسير بمعدلاته الراهنة.
تتضاءل أية قيمة للمنظمات الدولية، بل وللمجتمع الدولى أمام إرادة دولة كبيرة واحدة. خاصة إذا اختزلت تلك الدولة المسيطرة والممولة للنشاط الأممى فى إرادة شخص واحد! تذوب إذن المؤسسات والمنظمات وتبقى شريعة الأباطرة. ثم إنك إذا تابعت بعض وسائل الإعلام الأمريكية المهمة هذه الأيام، تشعر بأنك بصدد دولة مختطفة، أو محتلة من قبل إدارتها». والحمد لله خلّصت الديمقراطية الولايات المتحدة من ذلك العبث، وعادت بها إلى جادة الصواب فيما يتعلق بالتزاماتها تجاه تغيّر المناخ، مع إدارة جديدة.
• • •
فى جميع تلك القمم السابقة كان الإعداد لاجتماعات القمة أهم كثيرا من الاجتماعات الختامية التى تعقد بصورة شبه احتفالية خلال الأيام الرسمية لعقد المؤتمر. كانت الدعوة إلى مدينة «الرباط» سابقة على مؤتمر مراكش بفترة كافية. كنت حينها ممثلا لمجموعة عمل الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات التى انتخبت نائبا لها (كأول وآخر مصرى يحظى بهذا الشرف حتى تاريخ تلك السطور). كان على المجتمعين بالرباط صياغة تصوّر كامل لالتزامات بورصات الأوراق المالية بقضية المناخ. الأهداف واضحة، والدعوات محدودة، والنقاشات حرة تصب فى بوتقة واحدة، تضع خارطة طريق ملزمة لجميع الأطراف التى لم يتبق لتفعيل التزاماتها سوى مراسم التوقيع على وثيقة التعهدات خلال أيام المؤتمر.
كنت أتمنى أن تلقى مساهمات الخبراء والمختصين فى التمهيد لقمة الأطراف COP27 ذات المصير. حقيقة لا أعرف اليوم جهة فى سوق المال (مثلا) مسئولة عن الإعداد لهذا المؤتمر. لم أقرأ عن دعوة مصرية لممثلى البورصات حول العالم لبلورة رؤية مشتركة ومنتجات مالية خضراء جديدة للطرح خلال المؤتمر القادم! ربما التقصير من جهتى أو فاتنى شىء من جهود بورصة مصر فى هذا السياق، لكننى على أية حال وكثيرا من أصحاب الخبرة فى هذا المجال لم نتلق دعوة واحدة لحضور أى من الترتيبات الخاصة بأسواق المال فى قمة شرم الشيخ، وكنت أتمنى لو تم نقل الخبرات (دون أدنى تكلفة تذكر على أية جهة مصرية) بصورة تسمح ببناء المعرفة، وترك بصمة حقيقية فى هذا الحدث الهام! (ملحوظة: تحمّلت بورصة الدار البيضاء جميع تكاليف السفر والإقامة للمشاركين فى الاجتماعات التمهيدية للمؤتمر ناهيك عن فعاليات المؤتمر ذاته). بالطبع لم يكن الحديث عن تغّير المناخ والتنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر يلقى حينها الاهتمام المناسب من المسئولين فى مصر، حتى أن رئيس البورصة المصرية آنذاك لم يذهب للتوقيع على تعهدات البورصات الممثلة للأطراف فى قمة المناخ بمراكش، واكتفى بأن أقوم أنا (الذى لم تتحمل جهة عملى أعباء سفرى) بالتوقيع نيابة عن البورصة! أتساءل عن مدى استجابة المسئولين فى مصر اليوم لأية دعوة لحضور مؤتمر أو ورشة عمل تحمل أيا من كلمات السر الفاتحة لكل ما أغلق، مثل «المناخ» «الاستدامة» «الخضراء»...
المشاركات الحديثة فى مؤتمرات وإصدارات هامة، ومنها مؤتمر وإصدار قيم لمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية خاص بتحوّل الطاقة فى مصر، لا يمكن أن تجد طريقها إلى مؤتمر شرم الشيخ إلا من خلال فرق عمل متخصصة، لا أعتقد أن جهة ما قد تصدّت لتشكيلها ورعاية منتجها الفكرى. بكل أسف الجهود المطلوبة لإنجاح هذا النوع من المؤتمرات، تتم فى غرف مغلقة، مزدحمة بالأوراق والأفكار، سيئة التهوية والإنارة أحيانا، بعيدة كل البعد عن عدسات الفضائيات، وهى ظروف لا ينجذب إليها كثير من الناس فى بلادنا إلا من رحم ربى.
• • •
أهداف التنمية المستدامة التى تراوحت بين أهداف بيئية وأخرى مجتمعية وثالثة تتعلّق بالحوكمة الرشيدة، لم تعد مجرّد شعارات يتشدّق بها خبراء المؤسسات الدولية وبنوك الاستثمار الكبرى من أجل الحصول على امتيازات ضريبية وتسهيلات تمويلية... فقد بات من المؤكد أن استمرار الوضع الراهن المهدر لموارد الكوكب لن يكون ممكنا، وأن الحفاظ على مستويات معيشة آمنة وعلى اقتصاد مستقر، بل وعلى بيئة صالحة للحياة، لن يتحقق إلا ببذل جهود مشتركة على مختلف الأصعدة لتحقيق أهداف محددة بعناية بالغة، وقابلة للقياس الدقيق.
نتطلع بكل أمل إلى قمة الأطراف القادمة فى شرم الشيخ، أن تحقق الإنصاف فى قضايا البيئة وتغيّر المناخ. أن تتابع التعهدات السابقة للدول والمؤسسات بصورة محترفة، وأن تصوغ رؤية جديدة وأهدافا قابلة للقياس فى شتى مجالات العمل المحققة لأهداف التنمية المستدامة، وفى مقدمتها تحوّل الطاقة وتحسين كفاءتها، وإدارة ملفات المياه فى إطار العلاقات الدولية المنضبطة، بما يقلل من خطورة تداعيات الفقر المائى، التى باتت تهدد الكثير من الدول ومنها مصر، فضلا عن خفض البصمة الكربونية لمختلف الصناعات والأنشطة، وتطوير آليات وأدوات التمويل المبتكرة المحققة لكل ما سبق ذكره من أهداف.
كاتب ومحلل اقتصادى