هل ستختفى الأفكار التى أشهرها ترامب عند دخوله إلى البيت الأبيض منذ أربع سنوات، ويستمر صداها فى المجتمع الأمريكى؟ أم أنها ستتوارى وراء ستار من النسيان بعد انتهاء مدة رئاسته فى العشرين من الشهر الجارى؟ هل يتوقف الأمر على استمراره فاعلا نشطا على مسرح السياسة فى بلده أم أن الاتهام الموجه له من جانب مجلس النواب، وربما من مجلس الشيوخ سيغلق الباب أمام طموحاته، ويلقن درسا مؤلما لمن يخاطر بترديد مثل أفكاره. حتى لا تكون الإجابة عن هذا السؤال ضربا من التخمين، فربما يمكن استشراف آفاق هذه الأفكار بدراسة الجماعات التى حملتها ودافعت عنها ووصل الأمر ببعض أعضائها إلى اقتحام الكونجرس الأمريكى ليفرضوا وجوده مدة أخرى على قمة السلطة وفاء بانتصار له فى الانتخابات الرئاسية التى يعتقدون أنها سرقت منه. من هم هؤلاء الذين تجرءوا على القيام بهذا العمل الذى أسقط الأوهام عن استناد المؤسسات الأمريكية على قاعدة ثقافية تعلى من قيم حكم القانون، والثقة فى صندوق الانتخاب، واحترام قواعد المنافسة الانتخابية؟ هل سيفقد هؤلاء القدرة على الاستمرار بعد خروج الزعيم الذى التفوا حوله؟ أم أن لهم بيئة خصبة تستقبل آراءهم وتوفر لها كل الظروف الملائمة لنموها وانتشارها بحيث تصبح إحدى المعالم الثابتة فى غابة السياسة الأمريكية، لا يقدر أحد لا على اقتلاعها ولا حتى تجاهلها؟ هل تؤدى وظيفة داخل النظام الأمريكى فتجد فيه أو من بعض الفاعلين فيه تأييدا ومساندة، أم أن ذيوعها اقترن بظرف زائل، فلا حياة لها بعد أن ينقضى؟
جماعات اليمين الجديد
ليس المقصود بهذه الجماعات ما يمكن وصفه بأنه اليمين الأمريكى التقليدى والذى يمثله الحزب الجمهورى بمواقفه المعروفة من التحفظ على تدخل الدولة فى الاقتصاد والحرص على القيم المحافظة والامتثال عموما للدستور واحترام مؤسساته، ولكنها تلك الجماعات التى خاطبها دونالد ترامب فى خطاب تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة مدعيا أن انتخابه كان بشيرا بانتقال السلطة إليها بعيدا عن النخبة السياسية المتعالية فى واشنطن. الجماعات المقصودة هنا هى تلك التى عبأت أعضاءها للتظاهر تأييدا لمطلب ترامب بإعلان بطلان نتيجة الانتخابات التى أقرتها هيئة الانتخابات الأمريكية، ورفضت المحاكم الأمريكية بما فى ذلك المحكمة العليا فى واشنطن أى ادعاءات بسرقتها كما كان يزعم.
بعض هذه الجماعات تضرب بجذورها فى التاريخ مثل جماعة أنصار الكونفدرالية والتى ترفض هزيمة الجنوب فى الحرب الأهلية الأمريكية بما ترتب على ذلك من نتائج وفى مقدمتها تحرير العبيد فى كل الولايات الأمريكية، ومنها الجماعات المسيحية القومية، التى ترى أن وجود غير المسيحيين خطر على الأمة الأمريكية، ومنها جماعات النازيين الجدد التى تستلهم مُثَلَها بل وممارساتها مما كان يقوم به هتلر وحزبه النازى فى ألمانيا، كما أن من بينها جماعات التفوق العنصرى الأبيض، وترفض المساواة بين البيض وغيرهم ممن يتمتعون بالجنسية الأمريكية. وبعض هذه الجماعات حديث النشأة نسبيا وربما لم يكن له شأن قبل وصول ترامب للبيت الأبيض؛ مثل جماعة أمريكا أولا، حتى وإن كانت تستوحى شعارا ظهر فى أعقاب الضربة اليابانية للأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر فى سنة ١٩٤١، أو من يسمون بالشبان الفخورين والذين أشاد بهم ترامب فى مواجهة الاتهام لهم بممارسة العنف تجاه المواطنين الأمريكيين من ذوى الأصول الإفريقية، ومنها جماعات اللاتينيين المؤيدين لترامب، والتى يناصرها الأمريكيون من أصول لاتينية، وترجع أصول غالبيتهم لكل من أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، كما يشمل هؤلاء أيضا أنصار نظرية المؤامرة والتى تذهب إلى أن الحزب الديمقراطى أصبح أداة فى يد الشيوعية المؤيدة من المنظمات الدولية مثل حلف الأطلنطى والأمم المتحدة والذين يسعون جميعا للقضاء على الحضارة الغربية المسيحية. بل إن بعض أصحاب نظرية المؤامرة يقفون ضد ما يسمونه النظام العالمى الجديد الذى ينتصر فيه الإسلام على الحضارة المسيحية، ولا يتورعون عن حمل أعلام الصليبيين.
تتفق هذه الجماعات عموما فى رفضها للهجرة سواء كانت انتظامية أو غير انتظامية، ولا تعترف بأى حقوق للمثليين، ولا بحق المرأة فى الإجهاض، كما تشجب حرية التجارة، وترفض العلمانية بل ولا تحترم الدستور الذى سمح بانتصار بايدن والديمقراطيين على ترامب والحزب الجمهورى كما تؤيد الشرطة والقوات المسلحة. ولكن على الرغم من مساندتها لسياسات ترامب إلا أنها لا تبدى تعاطفا مع بعض سياساته. فبعض هذه الجماعات مثل النازيين الجدد معادية لليهود، ويذهب بعضهم إلى الادعاء بأن حرق ستة ملايين من اليهود، وهو ما ينسب لهتلر، لم يكن كافيا، ويدعون ترامب ألا يكون ترسا فى حكومة يحتلها الصهاينة.
وتتفاوت هذه الجماعات فى قبولها للعنف كأداة للعمل السياسى، ولكن معظمها يؤمن بحق المواطن الأمريكى فى امتلاك وحمل السلاح، ولا يتردد أعضاؤها فى الخروج به فى المظاهرات، بل وتشكل إحداها جماعات مسلحة مثل فرق الجناح اليمينى للموت.
لا توجد دراسات شاملة للأصول الاجتماعية لهذه الجماعات، ولكن يمكن الاستدلال على ذلك من خلال بيانات الانتخابات التى تظهر أن مؤيدى الرئيس ترامب هم عادة من الأقل دخلا وتعليما، وهم فى غالبيتهم من الرجال البيض، بينما يتميز من لم يصوتوا له بأنهم الأعلى دخلا وتعليما، وخصوصا من بين غير البيض، وحتى بين الأمريكيين من أصول لاتينية فقد صوت ثلثاهم لصالح بايدن، والذى حظى أيضا بأصوات ثلاثة أرباع اليهود الذين أدلوا بأصواتهم، كما لقى بايدن تأييدا أوسع بكثير بين الأمريكيين من أصول إفريقية وبين النساء.
اليمين الجديد والنظام السياسى الأمريكى
من الخطأ اعتبار هذه الجماعات جماعات هامشية، فلها حضور كبير على ساحة السياسة الأمريكية، وقد ظهر دورها الكبير ليس فقط فى المظاهرات المعادية للأمريكيين من أصول إفريقية، ولكنها كانت وراء التعبئة الكبيرة لمظاهرات الثانى عشر من ديسمبر لممارسة الضغط على المحكمة العليا فى الولايات المتحدة توقعا أن تصدر حكما لصالح ترامب وهو الذى عين ثلاثا من قضاتها، وكذلك فى مظاهرات السادس من يناير والتى تصاعدت إلى اقتحام مبنى الكونجرس وجلوس بعض قادتها فى نفس المقعد الذى جلس عليه نائب الرئيس الأمريكى وهو يدير جلسة مجلس الشيوخ التى انتهت بعد انقطاع تسببوا فيه بإعلانه تصديق المجلس على نتيجة الانتخابات وشارك نانسى بيلوسى زعيمة الديمقراطيين فى مجلس النواب ورئيسة المجلس الثانى فى إعلان مجلسى الكونجرس هذه النتيجة. فأفكار هذه الجماعات تجد تأييدا داخل الحزب الجمهورى وسط الفريق المعروف بحزب الشاى، بل إن معظم أعضاء الحزب الجمهورى فى مجلس النواب (١٣٩) رفضوا التصديق على إعلان نتيجة الانتخابات وأيدهم فى ذلك أقلية من الجمهوريين فى مجلس الشيوخ (٩)، وبذلك شاركوا هذه الجماعات موقفها من الانتخابات الرئاسية.
هل يعنى ذلك أن هؤلاء الجمهوريين يشاركون جماعات اليمين المتطرف هذه آراءها أم أنهم يخشون غضب ترامب عليهم إن لم يتخذوا هذا الموقف منها؟ لا شك أن أفكار هذه الجماعات وأسلوبها فى العمل وخصوصا إقدامها على اقتحام الكونجرس أثناء مزاولته لأهم أعماله وهو التصديق على نتيجة انتخاب رئيس أمريكى لم تلق استحسانا من غالبية أعضاء مجلس الشيوخ ومن قلة من أعضاء مجلس النواب. ولكن هناك هذا العدد الكبير نسبيا من أعضاء مجلس النواب الذين انتصروا لموقف هذه الجماعات. لا يمكن نسبة هذا الموقف لرد فعل رئيس يحظى بشعبية كبيرة فى الولايات المتحدة وإن خسر الانتخابات، حتى مع قبول افتراض أنه سيظل فاعلا مهما فى السياسة الأمريكية إما كمرشح مقبل للحزب الجمهورى فى سنة ٢٠٢٤ أو حتى من خلال حزب جديد يؤسسه.
الواقع أن لهذه الجماعات حضورا كبيرا فى المجتمع الأمريكى، فهناك شبكات تلفزيونية تشاركهم آراءهم، وهناك نجوم إعلامية تعبر عن هذه الآراء مثل نيكولاس فوينتس وروجر ستون، وهناك مفكرون محسوبون على هذه الجماعات، وبعضهم كان مستشارا للرئيس الأمريكى مثل ستيفن بانون، كما تستخدم هذه الجماعات أدوات التواصل الاجتماعى فى الوصول إلى أعداد كبيرة من المواطنين. ويضاف لذلك الموقف الدقيق للحزب الجمهورى فى الانتخابات الرئاسية خصوصا، فهو لم يحصل على الأغلبية الشعبية فى هذه الانتخابات منذ ٢٠٠٤، ولولا نظام المجمع الانتخابى لما فاز مرشحوه لا جورج بوش فى ولايته الثانية ولا دونالد ترامب فى ٢٠١٦، ولذلك فأعضاء الحزب الجمهورى يشعرون بالحاجة لهذه الجماعات لكسب أصوات قطاعات واسعة من المواطنين الذين يشعرون بأنهم لا ينالون من رخاء الاقتصاد الأمريكى إلا الفتات بل هم مهددون بالخروج من سوق العمل تماما. ولذلك فسوف تستمر هذه الجماعات فاعلا مهما فى النظام السياسى الأمريكى فى الأفق المنظور.
أعجوبة النظام السياسى الأمريكى
وجود هذه الجماعات هو الخدعة الكبرى فى النظام السياسى الأمريكى الذى ينجح فى أن يوجد الآليات التى تصرف قطاعات كبيرة من مواطنيه عن أسباب معاناتهم الحقيقية، والتى كشفت أزمة الجائحة عن هشاشة الرخاء المدعى فى بلادهم فى طوابير السيارات الممتدة على أميال طويلة انتظارا لمعونات غذائية تبقى ملايين العائلات على قيد الحياة، ولكنهم يتصورون المخرج فى وقف الهجرة أو اعتراض صعود الملونين وأصحاب العقائد الأخرى، أو هزيمة مؤامرة دولية على بلادهم تشترك فيها الصين مع المسلمين والأمم المتحدة وحلف الأطلنطى، ويهتدون إلى أن أسباب هذه المعاناة هى التقدم التكنولوجى الذى يلغى قطاعات إنتاجية وملايين الوظائف أو عملية العولمة بتوزيعها غير المتكافئ للمزايا والأعباء والنظام الرأسمالى المتوحش الذى تنفرد به بلادهم بتوليده المستمر للفوارق بين الطبقات وعزوفه عن إدارة ذلك بقدر من العقلانية، ويستمرون فى تصديق أن خلاصهم يأتى من ملياردير يكسب ثروته من كازينوهات القمار والمضاربة على العقارات، ويحرص عندما يصل إلى السلطة على إبعاد الدولة عن تقديم خدمة صحية ملائمة لهم أو تحسين فرص حصول أبنائهم وبناتهم على قسط معقول من التعليم الجامعى.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة