من الأخبار السارة أن تقوم دار نشر عريقة مثل دار المعارف بإصدار سلسلة كتب جديدة، تبسّط العلوم، وتربط القارئ بالثورات المتلاحقة فى مجالات التكنولوجيا والطب. تحمل هذه السلسلة اسم «اقرأ العلمى»، ويرأس تحريرها د. أحمد سمير سعد، وهو طبيب وأكاديمى ومترجم شاب، من أفضل من التقيت شغفًا بالعلم، وبراعة فى تبسيطه.
نفتقد حقًّا تلك النوعية من الكتب، فليست المشكلة فى توافر المعلومات، بل فى الفوضى والتشوش الذى نتج عن هذه الوفرة العشوائية، والذى يجعلك تائهًا بين المواقع والكتب، والمشكلة أيضًا فى صعوبة التعامل المباشر مع الكتب العلمية بمصطلحاتها وتخصصاتها المعقدة، مما يستلزم الشرح والتبسيط والسرد الجذاب المحرّضَ على القراءة، دون تجاهل الدقة العلمية، ودون ذكر معلومة إلا استنادًا إلى مصادر.
جاء وقت كان يقوم بهذا الدور الراحل الكبير أحمد مستجير، وهو عالم وشاعر وأديب معا، وأعتقد أن «اقرأ العلمى» يمكن أن يستكمل سياحة د. مستجير فى بحور العلم وكنوزه، وكمثال على استكمال هذا الدور، أحدثكم هنا عن كتاب «جينات المصريين»، وهو العدد الثانى من تلك السلسلة العلمية، وقد ألّفه كاتب ومترجم مهتم بقضايا العلوم والبيئة، هو أحمد حسن.
أعتقد أن هذا الكتاب استوفى بذكاء نقاط موضوعه، وقدّم سردًا سلسًا، ومراجع وفيرة، عربية وأجنبية، لكى يشرح للقارئ أهمية دراسة جينات المصريين عمومًا، ويتوقف عند مشروع الجينوم المصرى الذى نأمل أن يغيّر جذريّا مفهوم التعامل مع الأمراض واكتشافها وعلاجها، بل وأن يحقق فكرة «الطب الشخصى»، باختيار الدواء المناسب لكل شخص على حدة.
لكن المؤلف يبدأ الحكاية من بدايتها، ويستعرض بدايات علم الوراثة، وتجارب العالم والراهب الشهير جريجور مندل على نبات البازلاء، ودوره المهم فى اكتشاف قوانين أساسية، بمنهج عقلانى رياضى، مما فتح الباب أمام علماء آخرين، انطلقوا إلى آفاق أبعد، وأكثر تعقيدًا، أبرزها تمكّن كل من جيم واطسون وفرانسيس كريك فى العام 1953، من التوصل إلى بنية الحمض النووى (دى إن إيه)، ثم عرض تفاصيل جهود رصد التسلسل الجينى التى بدأت فى العام 1977، وظهور مشروع «الجينوم البشرى» فى العام 1990، بمحاولة رصد تسلسل 3 مليارات حرف، يتألف منها الجينوم الخاص بالبشر، ومرّ هذا المشروع الضخم بمحطات كثيرة، حتى صار من الممكن الحديث فى العام 2022، عن خريطة جينية مرجعية هى الأكثر اكتمالًا ودقة.
ولكى ندرك خطورة وتعقيد هذه القفزة العلمية الهائلة، ينقل المؤلف عن مات ريدلى فى كتابه «الجينوم.. السيرة الذاتية للتنوع البشرى» قوله إن الجينوم عبارة عن كتابٍ تمسكه بين يديك، يضم هذا الكتاب ثلاثة وعشرين فصلًا تسمى «الكروموسومات»، ويحتوى كل فصل على عدة آلاف من القصص الشيقة جدًا، التى تسمى «الجينات»..
وكل قصة مؤلفة من فقراتٍ تسمى «إكسونات»، تقطعها إعلانات يطلق عليها «إنترونات»، وكل فقرة تضم عددًا من الكلمات تسمّى «كودونات»، وكل كلمة مكتوبة بحروف تسمى القواعد، ويضم الكتاب بليون كلمة، لو تُليت على مسامع أى قارئ بمعدل كلمة واحدة فى الثانية، ولمدة 8 ساعات يوميّا، فسيستغرق ذلك قرنًا كاملًا للانتهاء من تلاوة الكتاب!
تساعد هذه الخريطة الجينية على تشخيص المرض وعلاجه وفق التركيب الجينى للإنسان، ومعرفة الأمراض المحتملة نتيجة عنصر الوراثة، وبالتالى توجيه خدمات الوقاية والتشخيص والاستشارة الفعالة للأمراض السائدة، سواء فى مصر، أو على المستوى العالمى.
أما مشروع الجينوم المصرى فهو طموح للغاية، ويستهدف تعيين التسلسل الجينومى لنحو 100 ألف مصرى من الأصحاء، ونحو 8 آلاف مصرى، ممن تحتمل إصابتهم بأمراض وراثية، بالإضافة إلى فحص ودراسة 200 من المومياوات المصرية، كما يسعى المشروع إلى إنشاء أول قاعدة بيانات جينومية شاملة فى مصر وشمال أفريقيا.
الكتاب لا يتحدث فقط عن الحالة الصحية والأمراض الوراثية، قديمًا وحديثًا، ولكنه يناقش ويفنّد نظريات غريبة عن أصول قدماء المصريين، تنسبهم بالتحديد إلى الأصول الإفريقية، وتحركها نظريات عنصرية. ويقدم المؤلف نتائج دراسات مهمة عن الأمراض الوراثية فى مصر القديمة والحديثة، نتيجة شيوع زواج الأقارب، وقد كانت المومياوات منجمًا لا ينضب للحصول على (الدى إن إيه) من خلال الأسنان والعظام، وللمقارنة بين جينات المصريين القدماء والمعاصرين، بل والمقارنة بين جينات المصريين، وجينات سكان الشرق الأدنى على وجه التحديد.
هناك نماذج كثيرة لأمراض وراثية شهيرة فى مصر بسبب زواج الأقارب، مثل حمى البحر المتوسط، ومرض «جفاف الجلد المصطبغ»، أو كما يطلق على المصابين به «أطفال القمر»، لأنهم لا يستطيعون التعرّض للشمس، ويلازمون منازلهم أثناء النهار، ولا يظهرون بشكلٍ طبيعى إلا فى ضوء القمر.
ومن بين الحكايات الأغرب بسبب الأمراض الوراثية، وزواج الأقارب، قصة أبناء قبيلة المعازة التى تعيش فى صحراء البحر الأحمر فى مصر، حيث تولد نسبة منهم وهم يعانون من الصمم والبكم، والكارثة أن أبناء هذه القبيلة لا يربطون بين زواج الأقارب، وشيوع هذه الظاهرة، ويعتبرون الأمر قدريا.
هناك تنبّه متزايد لأهمية الخريطة الجينية المصرية، وللفحص قبل الزواج، ولدينا دراسات وأساتذة كبار متخصصون فى الأمراض الوراثية، ولكن الأمر أيضًا ليس سهلًا، فالأبحاث والتحاليل مكلّفة، وحيز التغطية ليس كاملًا فى جميع الأماكن والمناطق، وهناك عنصر آخر مهم يتعلق بالاستجابة، فمعرفة الناس مثلًا بخطورة زواج الأقارب، لا يعنى تلقائيا ابتعادهم عنه، لأن هذه الزيجات ترتبط بأمور كثيرة، مثل الحفاظ على الميراث داخل أبناء العائلة الواحدة، وخصوصًا فى القرى والأرياف.
الأهم أيضًا مدى قبول الناس لنتائج الاختبارات الجينية التى قد تكون صادمة ومزعجة وخطيرة، فإلى أى مدى قد يوافقون على التدخل الطبى المبكر لمنع مرض وراثى قد يصيب الأجنة مثلًا؟
كتاب ممتع جدًا، يسدّ فراغًا معرفيّا كبيرًا، ويجعل القارئ أكثر وعيًا واهتمامًا.