نزار الصياد.. وتاريخ القاهرة العمراني - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 5:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نزار الصياد.. وتاريخ القاهرة العمراني

نشر فى : السبت 18 فبراير 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : السبت 18 فبراير 2023 - 8:55 م

(1)
من بين أبرز وأهم الكتب التى ظهرت فى معرض الكتاب لهذا العام عن (القاهرة وعمرانها)؛ ذلك الكتاب بالعنوان ذاته الذى صدر عن دار العين للنشر والتوزيع، للدكتور نزار الصياد الذى تعرفت عليه للمرة الأولى منذ صدور الترجمة العربية لكتابه الجامع الفاخر «القاهرة ــ تواريخ مدينة» الصادر عن المركز القومى للترجمة 2017 (قبل أن يولى المركز ظهره للقراء وطلاب المعرفة ورواد الثقافة بأسعاره الفلكية التعجيزية المفارقة للمنطق، وللهدف التنويرى الذى أنشئ من أجله أساسا؛ ولذلك حديث آخر ليس هذا موضعه!).

وخلال الأعوام الخمسة الأخيرة؛ صار الدكتور نزار الصياد؛ أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران فى جامعة كاليفورنيا (بيركلى) الأمريكية، أحد أهم وأبرز نجوم الكتابة عن القاهرة وتاريخها وعمرانها، وتاريخ المدن والعمران فى العصور الإسلامية، وعمارتها وتكوينها عموما، وقد نشط نشاطا كبيرا ولافتا خلال تلك الفترة؛ إما فى ترجمة بعضٍ من مؤلفاته القيمة التى كتبها بالإنجليزية، ونشرها فى كبريات الدور العالمية المحترمة، وإما أعاد هو نفسه كتابه بعض هذه الأعمال بصياغةٍ عربية جديدة ومناسبة لإيقاع العصر وتبتغى مخاطبة الشباب المتطلع إلى المعرفة فى المقام الأول.

(2 )
وهكذا، أعاد نزار الصياد تحرير كتابه الذى نفدت طبعته تماما عن المركز القومى للترجمة، ولم يعد متاحا بأى شكل، وأصدره فى تلك الطبعة الأنيقة الممتازة عن دار العين للنشر والتوزيع، وهى طبعة محدثة، بغلافٍ لافت وجاذب وشديد الأناقة، وجاءت هذه الطبعة بعنوان «القاهرة وعمرانها ــ تواريخ وحكام وأماكن» ومزودة بالصور الفوتوغرافية والخرائط والأشكال التوضيحية الشارحة.

وأنا أعتبر هذا الكتاب من أهم ما صدر عن «القاهرة» فى السنوات الأخيرة، لتقدم ــ للقارئ العام والمتخصص على السواء ــ واحدا من أهم وأجمل بل أمتع المؤلفات عن القاهرة العتيقة؛ القاهرة الساحرة الغامضة الملهمة، القاهرة التى أسرت الآلاف والآلاف عبر العصور، والتى لطالما استحوذت على نبض العالم العربى والإسلامى عبر العصور.

بدأ اهتمام الدكتور نزار الصياد بالقاهرة منذ سن مبكرة، وشُغف بها شغفا عظيما، شأن كل من وقع فى هواها وأسرته وسحرته ببهائها وقِدمها وعَتاقتها، وتناقضاتها العصية على الفهم والتحليل أيضا! لكن الدكتور نزار كان من القلة التى استطاعت ترجمة هذا الشغف وهذه الطاقة الشعورية الانفعالية للمدينة إلى معرفة منهجية منظمة، ونظرة نقدية متأملة أفاد فيها تماما من دراسته للهندسة والعمارة أولا، ثم من تجربته الخصبة فى البحث والتدريس بأكبر وأشهر الجامعات العالمية ثانيا، ولعل هذا يفسر توالى الأعمال التى ظهرت للدكتور نزار فى السنوات الأخيرة، فهى ليست حصاد عام أو اثنين، بل حصاد رحلة طويلة ممتدة تقترب من نصف القرن (منذ تخرجه فى العام 1977) وحتى وقتنا هذا.

(3)
فى «القاهرة وعمرانها»، وعبر أحد عشر فصلا ممتعا يقدم الدكتور نزار عرضا مذهلا، كليا وشموليا ودقيقا لتواريخ مدينة القاهرة، وأنا هنا أقصد الكلمة «حرفيّا»، بصيغة الجمع وليس المفرد، فالدكتور نزار يرى أن القاهرة تشكلت ونمت وتطورت، وتعقدت أيضا، فى ظل تواريخ متعاقبة ومتداخلة، ولم يشكل مسارَ هذه التعاقبات والتحولات تاريخٌ واحد أبدا.

انطلاقا من بؤرة مكانية بعينها، فى لحظة زمنية محددة، ينشئ الدكتور نزار سرديته الممتعة عن القاهرة؛ فهو لا يروى تاريخا صرفا، ولا يصف العمارة والمبانى وصفا باردا ومحايدا، وهو لا يتتبع التطور العمرانى والديموغرافى كهدفٍ لذاته؛ إنما وهنا مكمن البراعة والتفوق فيما أتصور، يمزج كل هذه المسارات والخطط والمنهجيات كى يقدم سيرة حية خصبة لمدينة/ مدن تعاقب عليها حكام وأحداث ومجتمعات متنوعة، راوحت بين الأرستقراطية الحاكمة والشعبية من أولاد البلد وبينهما فئات وطوائف وأرباب مهن وحرفيون وتجار؛ وتشكل كل طبقة من طبقات هذه المدينة الهائلة المتراكبة المعقدة المتداخلة نتاج التفاعل الذى تم عبر التاريخ/ التواريخ بين البشر والحجر؛ بين الحكام والمحكومين، والتصورات الذهنية ورؤى العالم (بالجملة الأيديولوجيات الظاهرة والعميقة) التى قادت فى النهاية إلى اختطاط هذا الشارع أو ذاك، أو ارتفاع هذا الجدار فى هذه القلعة أو تلك، أو تخطيط هذا السبيل أو فرادة هذه المئذنة أو تعرج هذا الدهليز فى مدخل واحد من الجوامع المملوكية.. إلخ.

قد يبدو الأمر لدى البعض سهلا ومتاحا ويمكن الوصول إليه بقليلٍ من الجهد والمعاينة! وهذا وهم كبير! ففى ظنى لم يكن يتأتى للدكتور نزار الصياد أن يقدم هذه الروائع بهذه الغزارة فى العرض والتأليف والحديث والشرح، بدون خوض رحلة طويلة امتدت لعقود راوح فيها بين الشغف الشخصى، والدراسة الأكاديمية، والممارسة البحثية والعلمية فى الجامعات الغربية، ووصولا إلى الانفتاح الفكرى والثقافى على جمهور عريض وأصيل وحقيقى خارج الدوائر الأكاديمية؛ وها هو يحصد ما أظنه مستحقا للحصاد والانتشار والمعرفة؛ جهد علمى رصين موجه لجمهورٍ ليس متخصصا فقط إنما أيضا جمهور عام شغوف بالقراءة والفهم عن تاريخ القاهرة «القاهرة» الآسرة.

(4 )
يذكر أن الدكتور نزار صدر له بالعربية أيضا عدد من الكتب كلها مثير للفضول والشغف، وكلها محل اهتمام وقراءة، وصار الرجل حقيقة قبلة ومرجعا لكل دارس وباحث ومهتم بتاريخ العمران وتطور المدن، وتتبع السياق التاريخى لحركة التوسع العمرانى، وتغير أنماط العمارة وفلسفتها وارتباطها بالتطور المجتمعى والنمو السكانى والحداثة... إلخ مما صار أحد فروع المعرفة الدقيقة الجاذبة جدّا لقطاع عريض من محبى التاريخ والآثار والخطط القديمة عموما وتاريخ العمارة خصوصا وتاريخ المدن العتيقة (وفى القلب منها القاهرة) بشكلٍ أخص. وتكفى الإشارة الدالة على عناوين موضوعاته وكتبه المثيرة للفضول المعرفى؛ ومنها على سبيل المثال:

«مدن وخلفاء ــ عن نشأة وتطور العمران العربى والإسلامى»، و«النيل ــ مدن وحضارات على ضفاف النيل»، و«القاهرة السينمائية عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع»، و«المدينة الأصولية ــ عن ممارسات التدين والتطرف وآثارهما على العمران».. وغيرها... (وللحديث بقية).