نشكو طول اليوم. نشكو زملاء إلى زملاء آخرين، ونشكو رؤساءنا ومرءوسينا. شكاوى الزوجات لا تهدأ، وكذلك شكاوى الأزواج والصديقات والأصدقاء. يشكو الناس تقاعس الحكومة وفوضى المرور وقذارة المدن وفساد البيروقراطية وتدهور المرافق وعسف قوات الأمن وسوء التعليم وفساد الأغذية وتلوث مياه الشرب. وتشكو الحكومة كسل الناس وجشعهم وضعف إنتاجيتهم وسوء تربيتهم ونقص طاعتهم وكثرة عددهم وفساد سلوكهم. نعيش حياة تئن تحت المبالغة فى ممارسة الشكوى.
بعض الناس يتعمدها ليلفت النظر إلى نفسه أو لإثارة بلبلة. وبعض آخر يشكو ليتسلى بالشكوى وردود فعل الآخرين لها أو يشكو بحكم العادة والتعود. وكثير منا يشكون كثرة شكاوى الناس من أخلاقيات وممارسات أفراد المجتمع الذى يعيشون فيه وأعضاء الجماعة أو الجهة التى يعملون معها أو لحسابها ويشكون رجال ونساء وأطفال العائلة التى ينتمون لها أو يتولون أمر رعايتها وإعالتها. أكثرنا يشكو وكلنا نضيق بشكوى الآخرين.
بعض الذين يضيقون بالشكوى يخلط بين الشكوى و«الأنّة» وبين الشكوى والنواح وبين الشكوى و«الزن». ما لا يعرفه الكثيرون هو أن الشكوى فى حد ذاتها شىء طيب. أنت تشكو فأنت تريد أن تعلن أن الأمور ليست ما يرام وتتمنى أن تتغير الأمور. ومادامت الشكوى تتعلق بأمور يمكن تغييرها أو يجب تغييرها، وطالما تعلقت بمسائل وأشياء محددة وواضحة، تبقى الشكوى مفيدة وبناءة. الشكوى الطيبة هى الشكوى المحددة والهادفة لتغيير أمر واقع، وهى الشكوى التى تدفع المشكو إليه للاهتمام بها.
أما أن تشكو من أمور شديدة العمومية أو تكون من الشكاة الهواة أو من أصحاب الشكوى المستدامة بمعنى الشكوى المتنامية بدون انقطاع أو تقطع، فشكواك لا تفيد ولن تغير شيئا وستدفع السامعين إلى الضجر والملل كأن تشكو طول الوقت من سوء الأحوال فى مصر وبؤس الحياة فيها، أو كأن تشكو بدون توقف من الجو الحار الرطب وأنت تعيش فى دولة مثلا خليجية أو فى الهند. أعرف صاحبا يردد فى صباحه ومسائه الشكوى من الرأسمالية» التى تسببت فى نشر الاكتئاب حتى صار وباء مقيما وتسببت فى دعم الأنانية المفرطة ونشرت الفردية المبالغ فيها فأصبحت سمة من سمات الشخصية المصرية الجديدة وركنا من أركان منظومة القيم السائدة». فاجأت هذا الصاحب الذى يشكو دائما وبإلحاح من كآبة الرأسمالية حين ذكرته بشكواه فى أيام مضت وكانت أيضا شكوى دائمة يرددها كل صباح ومساء عن الاشتراكية التى جعلت مصر دولة أفقر مما كانت عليه فى أى عصر من عصورها والشعب أشد تعاسة وأكثر استعدادا للانفراط والفتنة. الشخص نفسه والشكوى نفسها والمجتمع نفسه وإن تحت عناوين أخرى.
ومن الشكاوى شديدة العمومية الشكوى من «الطبيعة التى بذرت الشر فى البشر» وشكوى النساء من جنس الرجال. كان جوهر الشكوى من الرجل فى الماضى نزعات «سى السيد» وغرائزه فأصبح جوهرها تخلى الرجل عن «كافة» سمات «سى السيد» ومنها سماته الايجابية والطيبة، حتى صار الرجل لا يستحق فى نظر بعض النساء لقب «سى» يسبق اسمه، أيا كان الاسم. هناك أيضا شكوى الرجال من جنس النساء اللائى أهملن بيوتهن وأزواجهن بزعم السعى للحصول على المساواة مع الرجال أو النساء اللاتى استسلمن للشره فترهلن أو خضعن لأفكار مستوردة من الغرب عن مزايا الرشاقة ففقدن جاذبية استدارات البدانة!. هذا النوع من الشكاوى شديدة العمومية لن يصنع تغييرا ولن يصلح حالا وإن تسبب فى استقطاب مصحوب بالتوترات داخل العائلة وفى المجتمع.
الشكوى الطيبة والصحيحة هى تلك التى تقوم على نظرة واقعية لما يمكن تغييره. لا تكون الشكوى طيبة أو صحيحة إذا كانت مثالية الأهداف أو استندت إلى أسس قدرية و«اتكالية». ولا تكون مؤثرة إذا ترددت بإلحاح مبالغ فيه، كالإلحاح الذى يتهم به أزواج زوجاتهن ويطلقون عليه أوصافا شتى يعكس بعضها المدى الذى يمكن أن يذهب إليه الرجال فى محاولات قهرهم للنساء. ولا مبالغة فى الاعتراف بأن نوعا معينا من هذا الإلحاح المتهم به بعض النساء يعكس المدى الذى يمكن أن يصل إليه «كيد النساء» عندما يقررن الانتقام من أزواجهن أو معاقبتهم.
بالشكوى تتغير أمور. ولكن بالشكوى الطيبة تتغير الأمور نحو الأحسن وتهدأ الأحوال بين الزوجات والأزواج وتتطور العلاقات الاجتماعية وينصلح حال الوطن وتزول عن النفوس الكآبة وتعود إلى الشفاه البسمة.