لا شك أن مصريين كثيرين قد انتابتهم الدهشة من حديث المندوبين الصينى والروسى وهم يتابعون جلسة مجلس الأمن التى ناقشت النزاع حول السد الإثيوبى بين مصر والسودان من جانب والحكومة الإثيوبية من جانب آخر. تربط مصر بروسيا والصين علاقات وثيقة تمتد إلى أكثر من سبعة عقود، ولم تتأثر هذه العلاقات كثيرا بسقوط حكم الحزب الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى السابق، ولا بتحول الصين عن السياسات الراديكالية التى ارتبطت بالزعيم ماوتسى تونج مع تبنى سياسات الإصلاح التى دعا لها خلفه وغريمه دنج هشياو بنج وسار على نهجها رؤساء الصين الذين تبعوه. وما زالت تربط مصر بالبلدين علاقات متعددة الجوانب تمتد إلى المجالات الاقتصادية والعسكرية والعلمية، وتتكرر اللقاءات بين الرئيس المصرى وكبار المسئولين فى البلدين سواء فى عواصم الدول الثلاث أو محافل دولية. لقد بدت الدول الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر تعاطفا مع الموقف المصرى من هذين البلدين على الرغم من أن الصحف المصرية حتى وقت قريب كانت تكثر من التخوف من مواقف محتملة للرئيس الأمريكى جو بايدن وتتشكك فى نوايا بريطانيا بالنسبة للسياحة فى مصر. وضع المندوب الصينى الدول الثلاث المتنازعة حول السد الإثيوبى فى كفة واحدة بدعوته لها باستمرار التفاوض حول نتائج بناء هذا السد متغافلا عن التعنت الإثيوبى الذى أدى إلى فشل المفاوضات السابقة. وانفرد المندوب الروسى بالتحذير من اللجوء إلى العمل المسلح قاصدا بذلك الحكومة المصرية، وكأن العمل الأحادى الذى قامت به الحكومة الإثيوبية ليس هو السبب فى التفكير فى اللجوء إلى أساليب أخرى لتسوية هذا النزاع.
هناك مصريون ليسوا بالقليلين كانت لهم أسباب إضافية للشعور بخيبة الأمل من موقف البلدين. منهم من كان معجبا بالتجربة التاريخية للصين فى ظل حكم الحزب الشيوعى الذى احتفل بمرور مائة عام على نشأته، سواء تجربته النضالية فى مقاومة الاحتلال اليابانى وجنرالات الحرب قبل وصوله إلى السلطة فى بكين فى ١٩٤٩، أو فى ظل التوجهات الراديكالية لماوتسى تونج، أو إنجازاتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية التى ترافقت مع سياسات الإصلاح منذ سنة ١٩٧٨. كما يذكر هؤلاء مساندة الاتحاد السوفيتى لمصر طوال الخمسينيات وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضى، والسلاح السوفيتى الذى كان عنصرا هاما فى انتصارات أكتوبر ١٩٧٣. ولكن كما يقولون جرت مياه كثيرة فى أنهار الفولجا وميكونج والنيل. لم تعد روسيا هى الدولة التى تساند الحقوق المشروعة للشعوب العربية، ولم تعد الصين هى التى تقف إلى جانب التفسير الصارم للأيديولوجية الشيوعية، كما لم تعد مصر هى قائدة النضال العربى ضد الاستعمار والصهيونية. فما الذى جرى فى موسكو وبكين ودعا حكومتى البلدين إلى أن يظهرا عدم الاكتراث بقضية وجودية للشعب المصرى؟ ما الذى جمع بينهما فى هذا الموقف؟ وهل هناك أسباب خاصة بكل منهما؟ وماذا يتعين علينا أن نفعل أمام هذه الأوضاع الجديدة؟
مصالح مشتركة للبلدين
لكل من البلدين مصالح مشتركة مع إثيوبيا دعتهما لاتخاذ هذا الموقف. أولا كل منهما دولة منابع لأنهار دولية، وترفضان مثل إثيوبيا من حيث المبدأ خضوع هذه الأنهار لأى تنظيم دولى. هناك أنهار أولانج وأولو وباسفيك بين روسيا وفنلندا، وبروهلانداجا الذى تشترك فيه روسيا مع بولندا أو نهر بسو المشترك مع جورجيا أو بو لونتو الذى تشترك فيه روسيا مع منغوليا ونهرا الدنيبر والدون، وتشترك فى الأول مع بولندا وبيلاروس، وتشترك فى الثانى مع أوكرانيا، ولا ترتبط روسيا بعلاقات ودية مع بعض هذه الدول، وخصوصا ما كان منها من جمهوريات الاتحاد السوفيتى التى تخشى امتداد النفوذ الروسى إليها. هذا هو حال الصين أيضا التى تشترك مع كازاخستان وروسيا ومنغوليا فى حوض نهر الأوب، وتشترك فى النهر الأحمر مع لاوس وفيتنام. ولهذا السبب لم ينضم أى منهما مع إثيوبيا أيضا إلى اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالأنهار الدولية والمعروفة باسم اتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية لمجارى المياه الدولية فى ١٩٩٧. بل إن المندوب الصينى فى مداخلته فى جلسة مجلس الأمن فى أول يوليو تجنب استخدام تعبير الأنهار الدولية مشيرا إلى نهر النيل باعتباره نهرا عابرا للحدود.
كما يشترك البلدان، وكذلك مع إثيوبيا، فى مواجهتهما لمشاكل أقليات تحتج على أوضاع تمييزية ضدها. هذا هو حال الصين مع أقليات عديدة منها أقلية الأويغور المسلمة فى إقليم شينجيانج، وحال روسيا مع الشيشان المسلمين، كما تتعدد الأقليات فى إثيوبيا، وتخوض الحكومة حربا خاسرة ضد أقلية التيجراى التى طردت قوات الحكومة الاتحادية من عاصمتها وأسرت آلافا منهم، وتوشك على إعلان انفصالها عن حكومة أديس أبابا. لذلك تعتبر الدولتان أن قضايا القوميات هى شأن داخلى لا يجب أن تكون موضع اهتمام لا من المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة أو من جانب أى منظمات أو دول أخرى تحت أى مسمى. ولذلك وقفت الدولتان إلى جانب الحكومة الإثيوبية عندما ناقش مجلس الأمن هذه القضية.
كذلك تسعى كل من الصين وروسيا إلى تأكيد مكانتهما الدولية فى جميع قارات العالم، وبعناصر القوة التى تتميزان بها ويتنافسان فى ذلك مع الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية. وسيلة الصين فى كسب النفوذ هى باستخدام أدواتها الاقتصادية من مساعدات واستثمارات ومشروعات صناعية وزراعية وتشييد البنية الأساسية، ووسيلة روسيا هى بمد المعونة فى المجالين العسكرى والتكنولوجى، وقد اهتمت كل منهما بالقارة الإفريقية، فدعت الصين الدول الإفريقية لمشاركتها فى منتدى للتعاون الصينى الإفريقى فى سنة ٢٠٠٠ بنت له مقرا فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وكانت بعض لقاءاته على مستوى القمة، انتظمت منها ثلاث فى بكين سنة ٢٠٠٦، وجوهانسبرج ٢٠١٥، وبكين فى سنة ٢٠١٨، ولحقها الاتحاد الروسى الذى عقد مؤتمر قمة مع الدول الإفريقية فى منتجع سوشى فى سنة ٢٠١٩، كما عقد المنتدى الإفريقى الروسى الاجتماعى فى سنة ٢٠٢٠ محتذيا بذلك نموذج المنتدى الاجتماعى العالمى الذى يدعو له ناقدو العولمة والمنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس والذى عقدوا جلساته فى عدد من مدن أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا.
كما تشترك الدولتان فى أنهما لا يلقيان بالا للأوضاع الداخلية فى الدول التى يتعاونان معها، وعلى عكس الحكومات الغربية التى تضع مسائل حقوق الإنسان وحكم القانون ضمن جدول أعمال تعاونها مع دول الجنوب، لا تهتم الحكومتان بهذه المسائل، بل وتوثقان صلاتهما بالحكومات التى تتلقى انتقادات مماثلة من جانب الدول الغربية. وكانت الحكومة الإثيوبية من الحكومات التى وجهت لها مثل هذه الانتقادات فيما يتعلق بتعاملها مع قوى المعارضة، وخصوصا محاولة قمعها للاحتجاجات السلمية فى إقليم تيجراى التى انقلبت إلى حرب أهلية ومقاومة مسلحة.
علاقات الدولتين بإثيوبيا
لكل من الدولتين علاقات متميزة بإثيوبيا، وليس ذلك بمستغرب، فهى ثانى دولة إفريقية من حيث عدد السكان بملايينها المائة وسبعة عشر بعد نيجيريا وقبل مصر، ولها موقع مهم فى إقليم القرن الإفريقى شمال شرق القارة، وهى مقر الاتحاد الإفريقى واللجنة الاقتصادية لإفريقيا. وتحظى بمكانة خاصة فى الوجدان الإفريقى بتاريخها الطويل، وحفاظها على استقلالها باستثناء فترة الاحتلال الإيطالى القصيرة. وقد أقامت الدولتان علاقات دبلوماسية مع إثيوبيا منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسى، ومرت هذه العلاقات بفترات فتور، ولكنها انطلقت بعد الإطاحة بالحكم العسكرى فى سنة ١٩٩١.
وتسعى الصين لأن تقدم من خلال تواجدها الاقتصادى فى إثيوبيا نموذجا مشرقا لما يمكن أن تقوم به لمساعدة الدول الإفريقية على تحقيق تنميتها. ولذلك تنخرط الصين فى مشروعات هامة فى هذا البلد الإفريقى، فهى التى تبنى من خلال قرض تقدمه له شبكة الكهرباء التى تنقل الطاقة الكهربية من سد النهضة إلى جميع أنحاء إثيوبيا، وهى التى أقامت خط الترام فى العاصمة أديس أبابا، وأقامت أيضا خط السكك الحديدية الذى يصل العاصمة بميناء جيبوتى المجاورة، فضلا عن استثمارات هامة فى قطاعات الزراعة والصناعة والتشييد، كما تستأجر العديد من المصانع المملوكة للدولة، وتوسعت تجارتها مع إثيوبيا بدرجة كبيرة منذ سنة ١٩٩١، مع فائض هائل لصالح الصين. أما روسيا فقد ركزت على دعم القدرات المسلحة للجيش الإثيوبى، ونسقت دعمها العسكرى من خلال لجنة عسكرية مشتركة عقدت عشر اجتماعات على مدى العقدين الماضيين، وكانت آخر إنجازاتها فى هذا الصدد إبرام اتفاقية لدعم القدرات الفنية للجيش الإثيوبى، فضلا عن مساعدة إثيوبيا على النهوض بقدراتها فى الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
هل لدينا أوراق فى مواجهة الدولتين؟
علاقة كل من الصين وروسيا بإثيوبيا ومصر هى مثل لتعقد العلاقات بين الدول فى فترة ما بعد الحرب الباردة. خلال الحرب الباردة اتسمت العلاقات الدولية بالصراع الإيديولوجى الذى كان يفرض قدرا من الاتساق والقدرة على التنبؤ. الدول الرأسمالية الكبرى توثق علاقاتها بالنظم المحافظة فيما كان يسمى بالعالم الثالث وتدخل معها فى تحالفات عسكرية أو تساندها عندما يتعرض أمنها القومى للخطر، والدول الاشتراكية تساند ما يسمى بالنظم التقدمية أو المكافحة للاستعمار أو الملتزمة بسياسة عدم الانحياز ابتعادا عن الدول الاستعمارية السابقة. أما فى عالم ما بعد الحرب الباردة وسقوط الأيديولوجيات الكبرى، فلا يوجد هذا القدر من الاتساق فى علاقات الدول. كل قضية تستحق موقفا خاصا. ومن ثم تدخل الصين فى علاقات وثيقة مع مصر وإثيوبيا فى نفس الوقت، وتفعل روسيا نفس الأمر، تنخرط الأولى فى مشروعات اقتصادية طموحة فى مصر وإثيوبيا، وتقدم روسيا السلاح وتبنى محطات نووية فى البلدين، ولا تريان أى غضاضة فى ذلك طالما أن ذلك يحقق مصالح لكل منهما فى البلدين. ولا يبدو أن إثيوبيا أو مصر يمكن أن تطلب من أى منهما أن تتوقفا عن التعاون مع الدولة الخصم، لأنهما يعتمدان عليهما اعتمادا كبيرا.
مثل هذه العلاقات بين قوى كبرى فى النظام العالمى ودول صغيرة أو متوسطة أمر مألوف ومقبول طالما أن هذه العلاقات لا تؤثر على أمن الإنسان والأمن القومى فى دول أخرى ترتبط معها نفس هذه القوى الكبرى بروابط وثيقة. فى واقع الأمر لا تنعدم الخيارات أمام الدول المتوسطة ذات النفوذ الإقليمى أو حتى الدول الصغيرة. يمكن، وهذا أضعف الإيمان، أن تصارح هذه القوى الكبرى بالتناقض فى مواقفها، وأن تضعه على جدول الحوار معها، ويمكن لها أن تجد شركاء آخرين بدلا من هذه القوة الكبرى التى تتعاون مع خصومها. ولا أظن أن الحكومة المصرية، لو توافرت لها الإرادة، عاجزة عن عمل ذلك.