أقف فى نافذتى أرقب الطريق المدق من الحجر الأبيض، يحدوه جدار أبيض منخفض، ولكنه بعد، يحجب عنى رؤية ما وراءه فى وقفتى هنا. رمال بيضاء تتحرك بطيئا على الطريق الأبيض. كنت أتبع بنظرى نسقا منتظما فى حركتها، أشكالا تتغير وتنمو بين حمرة الغروب فى يوم وزرقة الفجر الباهتة فى اليوم التالى. وكنت، إذ أقطع الطريق، أسير على أطراف أصابعى، لا يكاد باطن قدمى يلمس الفراغات المستوية، التى تومض بيضاء بين تراكمات الرمل، وقد خُيل إلىَّ أن أشكال الرمال على الحجر يجب أن تُترك للطبيعة، وحدها، فلا أريد أن تغير ذرة رمل واحدة مسارها بسببى. ماذا يفيدنى أن أحاول تفسير شكل كانت لى يد فى تنسيقه؟ الطريق أمامى، وبعده يمتد الشاطئ، وبعد ذلك البحر.
أيامى
فى السنوات الأولى كنت أجلس على الحافة حيث تدفقت أمواج البحر وتدفقت، تنساب حروفها البيضاء المزبدة تقضم الرمل، برفق، ثم تنحسر، مخلفة أهلة واسعة من الرمال المبتلة، أعمق لونا، وقد انقلب اصفرارها إلى البنى الفاتح.
كنت أعمد إلى الجلوس فى حدود واحد من تلك الأقواس، فى المنتصف بالضبط، أجلس وكأنى فى مركب، وأنتظر. وقد تلامس الموجة قدمى، وقد تحيط بى متدفقة وتغطينى حتى خصرى، ثم تنحسر، ساحبة طبقة من الرمال من تحتى، وأنا جالسة أرقب الماء يختفى تدريجيا من حفرتين يرتاح فيهما كعباى. وخفيفا كظل سحابة عابرة، ينزلق هلال الرمل الذى أعتليه فى إثر الموجة التى كونته، فلا يلبث أن تجتاحه وتغمره الوثبة التالية من البياض المزبد.
أسند ظهرى إلى جدار الغرفة وأعد السنين: اثنتا عشرة سنة مضت منذ التقيت به، ثمانى سنوات منذ تزوجته، ومنذ ست سنوات أنجبت ابنته.
فى كل صيف طوال ثمانى سنوات نحضر هنا، إلى بيت المصيف على الساحل غرب الإسكندرية. فى الصيف الأول لم يكن هناك مجال للتأمل: كان همى منصرفا إلى حب زوجى هنا ــ فى مكان جديد علىَّ. عشقته وهو يخطو صوب مظلتى نافضا الماء عن شعره الأسود، وقدماه تغوصان فى الرمل الناعم المضياف، عشقته وهو يحمل ابن أخيه على كتفه وينزل إلى البحر، يلقى به فى اللجة ليلتقطه من جديد.. عملاق يخوض عباب الموج.
أحببته وهو يلعب الطاولة مع أبيه فى العشية، وقرقعة الفيش وخشخشة الزهر تتعالى فى أرجاء الفناء، وأنا أجلس مع أخته إلى طاولة السفرة تعلمنى كيف أخط أحرف لغتهم الدائرية الزخرفية. أحببت هذا الـ هو الجديد ــ الذى سبق الإيحاء به ولكنه لم يتكشف أبدا ونحن نعيش فى بلادى الشمالية ــ وقد عاد إلى قلب بلاده بعد غياب طويل، وأتى بى معه. كنا، ساعة الغروب، نسير على امتداد حافة المياه، نركل رذاذ الماء المتطاير، وقبعتى الشمسية مرخاة على ظهرى، ويدى، التى أصبحت برونزية، فى يده السمراء، ومن المؤكد أن تعبيرات وجهى كانت تعكس تعبيرات وجهه: زوجان شابان يتقدان عافية وحبا، يصلحان لإعلانات شركات التأمين على الحياة أو شركات السياحة تدعوك إلى إجازة قصيرة فى بلاد مشمسة.
صيفى الثانى هنا كان الصيف السادس فى عمر حبنا، والأخير فى عمر سعادتنا. كنت حاملا فى طفلتى وأعشق أباها.
أجلس على الشاطئ وأطلق العنان لأفكارى، أذكر حياتنا فى بلدى قبل أن نتزوج: أربع سنوات فى الشقة الصغيرة التى أضيفت كيفما اتفق على سطح بيت قديم، فى ساحة من الطراز الجورجى. يلقانى فى موقف الباص عند عودتى من العمل. فى أيام الآحاد ــ إذا لم تمطر ــ نجلس فى الحديقة حاملين جرائدنا. سهراتنا المتأخرة فى صالات السينما.
فكرت فى هذه الأشياء وافتقدتها، ولكن دونما إحساس عارم بالفقد. وكأنها باقية ماثلة، تنتظر أن نستدعيها ونحياها من جديد، متى شئنا.
كنت أمد بصرى إلى البحر. وأدرك اليوم أننى كنت أحاول أن أتبين الروابط بين الأشياء. فكرت مليا فى الماء والرمل وأنا جالسة أرقبهما يلتقيان ويتغازلان ويتلامسان، وأحاول أن أتمثل أننى على الحافة، حافة إفريقيا ذاتها، وأن اتساع البحر المقابل لا يقارن البتة بما يقوم ورائى. عجزت بصيرتى عن إدراك عالم ليس حاضرا أمام عينى، رغم أننى توغلت فى القارة، وعاينت بنفسى المساحات الشاسعة من الأخضر المغبراللانهائى، والجبال، والسماء الواسعة. لكننى لم أكن أرى إلا الشاطئ والأمواج والزرقة، وعبر ذلك كله، طفلتى.
كنت أجلس ويدى على بطنى، أنتظر حركتها: الانفجارات المتناهية الصغر، والرفرفات التى تدلنى على مكان رقودها وعلى مزاجها، وتدريجيا أخذنا نتحاور، كانت تكور جسدها وتكمن بصلابة فى إحدى زوايا جسدى حتى أنكفئ فى وضعى غير المريح أحثها وأنخسها لتعود إلى موقع ألطف. كنت أدلك زاوية ما من بطنى بتؤدة، وإذا بخبطة خفيفة تسرى مباشرة نحو يدى. أنقر أنا، وتخبط هى من جديد. كنت فى التاسعة والعشرين. انتظر بدنى سبعة عشر عاما لكى يعلق بالحمل، وها هما قلبى وعقلى يجاريانه ــ الطبيعة فعلت فعلها على نحو مثير للإعجاب، فرغبتى فى الطفلة نبعت من عشقى لأبيها ــ وكم كنت غارقة فى حبه ذلك الصيف. جسدى لا يشبع من الأب، وطفلته آمنة فى داخلى.
من موقفى هنا لا أرى سوى البياض الجاف الصلب. الوهج الأبيض، والجدار الأبيض، والطريق الأبيض يضيق فى البعيد.
كان علىَّ أن أغادر. لم تعد الفكرة تلسعنى، أضحت معتادة رتيبة. كان علىَّ أن أغادر فى فورة ذلك الغضب الحائر المجروح حين أحسست للمرة الأولى أنه ينسحب بعيدا عنى... كان يجب أن أذهب. كان علىَّ أن أستدير، وأحمل طفلتى، وأغادر ــ أستدير ــ الحجرة تسبح فى ظل خفيف، شيش النافذة مغلق يحجب الشمس الساطعة. يطلقون على المصراع الخشبى اسم الشيش، يقولون إنها كلمة فارسية تعنى زجاج الشىء الملاصق لشىء آخر يتسمى باسمه. تراودنى هذه الفكرة مرارا، وأشعر أنها ستقودنى إلى شىء ما وسأخلص إلى نتيجة منها، ولكنى لم أفعل بعد.
أمرُّ بإصبعى على فتحة من فتحات الشيش، هنا وفى المدينة تقوم أم صابر، مربية زوجى، بكل أعمال المنزل. فى البدء حاولت أن أساعدها على الأقل، ولكنها كانت تهرع نحوى وتسحب منفضة الغبار أو المكنسة الكهربائية من يدى قائلة: عيب، عيب. أمال أنا باعمل إيه؟ خلى إيديكى حلوة وناعمة. روحى استريحى أو روحى النادى. ما لك ومال الحاجات دى؟ كان زوجى يُترجم ذلك كله، ثم يقول لها كلاما فهمت فيما بعد أنه يطمئنها أننى قريبا سأعتاد على أسلوب حياتهم. وكنت إذا خططت وجبة طعام لا تفلح، و أم صابر تطبخ أفضل ما يتوفر فى السوق ذلك يوم، وإذا نزلت إلى السوق ضاعف الباعة أسعارهم. وأنا الآن أقوم بتنسيق الزهور وتمليس الثنيات فى الستائر، وأتصدر المائدة فى الولائم التى نقيمها.
سريرى مرتب. فراشى العريض الذى تلقى لوسى بنفسها فيه فى منتصف كل ليلة، حين تتسلل نصف نائمة تحت الناموسية، تلتصق بى، فأحضنها بذراعى إلى أن تدفعه بعيدا عنها. تستخدمنى أثناء نومها، فصدرى وسادتها حينا ، وفخذى مسند قدمها. أما أنا فأرقد راضية، سعيدة باستخدامها لى. أمسك قدمها بيدى، وأقبلها، وأفكر فى المستقبل القريب عندما يصبح من غير المقبول أن أقبل القدم البضة.
ذات مرة، منذ سنوات عديدة، وقفت أنظر إلى امرأة باكستانية نائمة على أريكة من الجلد الأسود فى صالة ترانزيت فى أحد المطارات. كان ثوبها وبنطالها من حرير أصفر زاهى، والثوب موشح بأزهار يانعة من البنفسجى والأخضر. الأساور الذهبية تغطى ذراعيها، أقراط من ذهب فى أذنيها وفى منخارها الأيسر، وعقد ذهبى يطوق جيدها. طفلها الصغير ملتصق بجسدها، إحدى قدميه محشورة بين ركبتيها، وأنفها مدسوس فى شعره. كان أثمن ما تملكه فى الدنيا معها على تلك الأريكة كاملا غير منقوص، ولذا استسلمت إلى نوم عميق. هذه الصورة خزنتها له فى ذاكرتى.
رتبت سريرى هذا الصباح. بسطت ذراعى بعيدا ولملمت الناموسية الناعمة المنتفخة. طويتها على شكل لفة سميكة، وعقدت طرفها ليتدلى بأناقة فى الهواء فوق الفراش.
قبل تسع سنوات، حين جلست تحت ناموسية للمرة الأولى كتبت: الآن أعرف ما تحسه المرأة الأوربية فى المستعمرات كان ذلك فى كانو ، فى قلب القارة التى أجلس على حافتها الآن. كانت ثلاث سنوات قد مرت على بداية حبنا، وكان تباعدنا آنذاك مجرد تنويع لحضورنا معا. كنا إذا افترقنا ظل افتقاد كل للآخر ينهش قلبينا، ونقول إن هذا يؤكد توحدنا الحقيقى الجوهرى. افترقنا فى مطار هيثرو على أن نلتقى بعد أسبوعين فى القاهرة لأقابل أهله للمرة الأولى.
فكرت فى كتابة قصة عن هذين الأسبوعين، عن رحلتى الأولى إلى إفريقيا، عن محمد السنوسى وهو يحدثنى بأدب جم عن المكانة الأدنى للنساء. كان مهذبا لأننى امرأة أجنبية، أوروبية، جئت فى مهمة عمل، فيمكن أن أعامل كـ رجل فخرى فكرت فى كتابة قصة عن الطريق الطويل المستقيم فى السفر إلى مايدوغورى، والتوقف عند استراحات من الأكواخ لمضغ اللحم الذى كنت كثيرا ما أبتلعه صحيحا. والسنوسى يحدثنى عن اللحم فى أوروبا وكيف يذوب فى الفم مثل الأرز باللبن فلا قوام له.
أكتب قصة الأسد الذى لمحته بين الأعشاب الطويلة فطلبت من السائق أن يتوقف، وقفزت من السيارة، وصوبت آلة التصوير والتقطت صورة له وهو رابض. وحين عدت إلى السيارة كان السائق يستجمع قواه بعد أن دب الرعب فى أوصاله، وأكد لى أن الأسد كان يستعد للانقضاض علىَّ. ما زلت أحتفظ بالصورة: لقطة قريبة لأسد رابض وسط أعشاب طويلة... أتطلع إلى الصورة ولا أستطيع أن أصدق ما كان يمكن أن يحدث.
ولم أكتب القصة، رغم احتفاظى بما دونته من ملاحظات. هنا، فى هذه المحفظة الجلدية التى أستخرجها من درج فى خزانتى. قصتى الإفريقية. رويتها له بدل كتابتها، وكنا نجلس إلى مائدة مضاءة بالشموع فى مطعم فى القاهرة، فقبَّل يدى وقال: أنا مجنون بك كان النيل يتدفق أسفل النوافذ العالية وكانت إلى الأبد على شفاهنا، فى أعيننا... تزوجته، وكنت سعيدة.
أتصفح ما دونته من ملاحظات. كل واحدة تنطوى على تعليق، وعلى وصف هو المقصود به. أفكارى جميعها كانت تدور حوله. أما هو فكتب يقول إنه فى المطار، عاد ليبحث عنى بعد أن مضيت، ليضمنى ويخبرنى بما يشعر به من وحشة. ولم يصدق أننى لست معه لتهدئة مشاعره. وكتب يصف نبرة صوتى على الهاتف، والثنية التى فى أعلى ذراعى، وقال إنه يعشق تقبيلها.
ماذا يمكن أن أكتب؟ أجلس بمذكراتى إلى المكتب وأنتظر لوسى. المفروض أنى نائمة. هذا ما يعتقدون، هذا ما نتظاهر به: أنى أنام حتى تمضى ساعات الحر الشديد فى منتصف النهار. ولوسى هناك فى الخارج، على الشاطئ وقرب حمام السباحة ولا تحتاجنى. معها أبوها، وعمها وعمتاها، وأبناؤهم الخمسة.. وفرة من رفقاء اللعب والحماه. وأم صابر تجلس هناك صابرة يقظة فى جلابيتها وطرحتها السوداء، وبجانبها الكراسى محملة بالمناشف، وزيوت الوقاية من الشمس، والقبعات العريضة، والشطائر، والمشروبات المثلجة المعبأة فى برادات الترموس.
أتطلع وأراقب وأنتظر لوسى.
فى سوق كادونا فى نيجيريا كانت الذبائح المرقشة الحمراء مصفوفة على منصات خشبية تظللها مظلات رمادية من البلاستيك ــ فى البداية رأيت اللحم، الذباب يتدافع ويحط علىه، ثم رأيت الجوارح فوق ألواح البلاستيك الرمادية. كانت تقف على الحرف كما تفعل العصافير الصغيرة فى ساحة سوق إنجليزى، ولكنها كانت ثقيلة وساكنة وصامتة. كانت تربض بهدوء بارد، لا يطرف لها جفن، والشمس الحارقة تلهب رءوسها الصلعاء. اجتاحنى خوف تبين لى فى لحظتها أنه فى غير محله، وأن الجميع يعرفون بوجود هذه الطيور ويواصلون عملهم كالمعتاد، وأن تواجد الجوارح مشهد مألوف فى سوق الجزارة فى كادونا.
حرارة الشمس تنفذ فى مسام المنزل. أفتح باب غرفتى وأخطو خارجة إلى الصالة الصامتة. فى الحمام أقف داخل حوض الدوش وأفتح الصنبور ليتطاير الماء البارد فوق قدمى. أحشر ذيل تنورتى بين ساقى وأنحنى لأضع يدى ورسغى تحت الماء. أضغط بكفى المبللة بالماء البارد على وجهى وأتخيل صورة سقوف أردوازية رمادية مبللة بالمطر. أسترجع صور الأشجار. أشجار تحدث حفيفا فى حركة الرياح، ثم تسقط أوراقها رشات عذبة من قطرات الماء بعد أن يتوقف المطر.
أسير بخطى خافتة على قدمين مبللتين تجفان عند وصولى إلى المطبخ فى نهاية الممر الطويل. أفتح الثلاجة وأرى قطع الضأن متبلة فى صنية معدنية واسعة؛ استعدادا لشواء الليلة. جبل من العنب الأصفر يرشح فى مصفاة. أتناول عنقودا وأضعه فى طبق صغير أبيض. أم صابر تغسل جميع أنواع الفواكه والخضار مستخدمة محلول البرمنغنات الأحمر. وقاية لى أنا، فإن لوسى لا تكف عن قضم الخيار والجزر من سلة الخضر مباشرة. ولكنها ولدت هنا، وهى تنتمى لهم الآن. لو أننى أخذتها وذهبت حين كانت فى شهرها الثامن لانتمت إلىَّ. أسكب الماء المعدنى البارد فى كوب طويل وأغلق الثلاجة.
أخطو عائدة عبر الممر، مارة بغرفة أم صابر، بغرفته هو، وبغرفة لوسى. وحين أدلف إلى غرفتى أقف أمام النافذة من جديد، وأتطلع من شقوق الشيش إلى البياض الذى يبدو الآن وكأنه فقد حدة إشعاعه. لو انتقلت إلى النافذة الواقعة فى الجدار المقابل، لرأيت العشب الأخضر تحيطه أجنحة البيت الثلاثة، ورشاش الماء يدور فى وسط الحديقة، يدور بلا توقف.
أدير المروحة فيهب الهواء على شعرى ويلف على وجهى ويبعثر أوراقى. أركع على الأرض وأجمعها. الورقة الأولى: نينجى يجلس إلى مكتبه برصانة، وأسنانه الكبيرة مصبوغة بلون الكولا. قرب يده اليمنى جرس دراجة يقرعه كلما أراد استدعاء الساعى مذكرة أخرى: يجب أن يصف عنوان القصة الأشياء الثلاثة التى نتوقف بسببها على الطريق: البول، والبنزين، وباب الصلاة تلك كانت أياما خالية، ولم تكن النكات التى أرويها مريرة.
أستلقى على السرير. هذه الوسائد الأربعة من إضافاتى، فهم هنا يستخدمون وسادة واحدة طويلة وعليها وسادتان صغيرتان. بياضات السرير تأتى فى أطقم، وعلى فراشى دائما وسادتان فى غلافين بسيطين، ووسادتان مطرزتان بما يتلاءم مع بقية الطقم من الملاءات. وفى جانب من الشيفونيرة أحتفظ بأكياس الوسائد الطويلة المطرزة. وحين أخرجها وأتأملها، أجد زهورها يانعة وزاهية وجديدة.
أرفع عنقود العنب فوق وجهى وأنا مستلقية على الفراش وأقضم حبة منه كما يفعل الرومان فى الأفلام. ليتنى ألهو، ليتنى ألهو من جديد. لكن لوسى هى رفيقة لعبى الوحيدة الآن، وهى تلهو مع أبناء عمها وعماتها فى حوض السباحة.
منذ بضعة أسابيع، وكنا فى القاهرة، تطلعت لوسى إلى السماء وقالت:
أستطيع رؤية المكان الذى سنقيم فيه
أين؟ سألتها، والسيارة تقطع شارع الجبلاية.
فى الجنة.
الجنة؟ وكيف ترين شكلها؟
إنها دائرة يا ماما، ولها مدخنة. وسيكون الجو فيها شتاء دائما.
مددت يدى وربت على ركبتها قائلة: شكرا لك يا حبيبتى
نعم، يضنينى الحنين. ولكن ليس إلى الوطن وحده. أحن لزمن، لزمن مضى ولن أعيشه من جديد، أبدا. أشتاق لعاشق كان لى، ولن يكون لى من جديد ...أبدا.
راقبته وهو يختفى. لم يكن بالضبط يختفى، بل يخفت، يرتد بعيدا. لم يكن راغبا فى الذهاب. ولم يذهب بيسر. طلب أن أمسك به، ولكنه لم يبين لى كيف. مثل حبنا كجنية الحكايات الطيبة، جردت فى لحظة من إيماننا بسحرها، تنقلب إلى امرأة عجوز حزينة، وعصاها السحرية مجرد عصا، لا فائدة ترجى منها.
هكذا... كنت أرى ما يحدث، أرى السدود تتشكل أمامى. خصالى الأجنبية التى كانت تسحره فى البداية أصبحت تثير ضيقه: عجزى عن تذكر الأسماء، عن متابعة تفصيلات السياسة، وصراعى مع لغته، وحاجتى إلى الوقاية من الشمس والبعوض والسلطة الخضراء وماء الشرب. لقد عاد إلى وطنه، وكان فى حاجة إلى من يتآلف معها فى بيته. ربما استغرق الأمر سنة، تلك المعركة التى رفضت أن أدخلها ولعل لوسى الرضيعة كانت فيها حليفى. انشطر قلبه إلى اثنين، أما قلبى فقد انكسر... وكفى.
لم أعد أرى فيه حبيبى الآن. وبين حين وآخر، إذ يعدو على الشاطئ حاملا لوسى، أو ينحنى ليتفحص كوعها المجلوط، وأحيانا إذ يلعب مع الأطفال على الرمال، أو يجلس فى مواجهتى إلى المائدة الطويلة فى حفلات العشاء.. أرى رجلا قد أقع فى حبه ثانية، فأشيح بوجهى.
كذلك رويت له حكاية أول سراب رأيته على الطريق الطويل المتجه إلى مايدوغورى رأيت السراب ثانية على الطريق الصحراوى إلى الإسكندرية فى أول صيف لى هنا، فهتفت متشكية:
يصعب علىَّ أن أصدق أن لا ماء هناك وأنا أراه بهذا الوضوح
تعتقدين فقط أن ما ترينه ماء
أليس الأمر سيان؟ عقلى يعلمنى بوجود ماء هناك، ألا يكفى هذا؟
قال وهو يهز كتفيه: نعم، إذا اكتفيت بالجلوس فى السيارة ورؤية السراب وأردف: ولكن إذا أردت أن تقصدى الماء وتغمسى يديك فيه وتشربى فالأمر سيختلف، أليس كذلك؟ ونظر إلىَّ بطرف عينه، وابتسم.
بعد قليل سأستمع إلى صوت لوسى عاليا واضحا، تثرثر مع والدها، وهى تسير، يدها فى يده، على الطريق المؤدى إلى الباب الخلفى. ثم تأتى خطوة أم صابر الثقيلة. سأخرج للقائهما مبتسمة، فيسلمنى لوسى مبللة بالماء والرمل، ويسألنى إن كنت بخير، ونظرة قلق خفيف تعلو وجهه، وقد يربت على كتفى. وأمضى بلوسى إلى حمامى، ويدخل هو إلى حمامه. فيما بعد، يعود باقى أفراد العائلة واحدا واحدا، ويستحمون، ويبدلون ثيابهم، ثم يجلس الجميع إلى مائدة الشواء. ولسوف يأكلون ويشربون ويتحدثون فى السياسة ويتبادلون النكات ذات المغزى السياسى الساخر اليائس. ولسوف يضحكون.
لعلهم يتوقعون أن أهتم بالتطريز وأبدأ فى إعداد لوحات الأوبيسون التى يتخيل الجميع، فى الوقت الراهن، أنها ستكون ضرورية لجهاز لوسى.
البارحة، حين ألبستها ثيابها بعد الحمام، تفحصت صورتها فى مرآتى بعناية، وطلبت أن أعقد لها ضفيرة فرنسية. جلست خلفها قرب منضدة الزينة، وأخذت أجفف شعرها الأسود بالسيشوار، وأمشطه وأضفره ــ بعد ميلاد لوسى غطت أم صابر جميع المرايا فى البيت، وشرحت لى شقيقته: يقولون إن الوليد الذى ينظر فى المرآة إنما ينظر إلى قبره. ضحكنا، ولكننا لم نرفع الأغطية عن المرايا حتى أتمت لوسى سنتها الأولى.
تابعت فى المرآة وجه لوسى الجاد. أنا رأيت قبرى ذات مرة، أو خيل إلىَّ ذلك، وهذا فصل من قصتى الإفريقية. الطائرة القادمة من نيجيريا حلقت فوق مطار القاهرة. ثلاث مرات سمعت صوت عجلات النزول تنفتح، وثلاث مرات سمعتها تنغلق. كان يجلس بقربى رجل أعمال من فنلندا، وعندما سمعنا الإعلان عن تغيير مسار الطائرة إلى الأقصر هز كل منهما رأسه وطلب مشروبا ثانيا.
وعند الفجر، فوق مطار الأقصر، أعلمونا بوجود عطل فى آليات النزول، وأن الطيار سيحاول القيام بهبوط اضطرارى. وقلت فى نفسى: هذا هو السبب فى المجىء بنا إلى الأقصر، لكى نحترق فى ستر ولا نعطل الحركة فى مطار القاهرة.
طلب منا أن نربط الأحزمة وأن نخلع الساعات والأحذية، وأن نضع الوسائد الموجودة خلف المقاعد على حجرنا، وننحنى عليها وأذرعتنا معقودة خلف رءوسنا. علَّقت حقيبة يدى، بما تحتويه من جواز سفر وتذاكر ونقود، فى عنقى وكتفى، قبل تنفيذ تلك التعليمات. تصافح جاراى الفنلنديان بوقار، وخيم على الطائرة صمت مطبق ونحن ننحدر من السماء. وحين ارتطمنا بأرض المطار تعالى صرير معدنى رهيب ومديد. وفى تلك اللحظة بدا رأسى، بل وجماع نفسى وكيانى بأسره، على حافة إشعاع فارغ خاو، ولكنه جلى بين. ثم تملكتنى أفكار ثلاثة: أولا هو، اسمه يلح علىَّ المرة تلو المرة. ثانيا الأطفال الذين لن أنجبهم. وثالثا أن النسق قد اكتمل: هذا ما آلت إليه حياتى.
نجونا! فأضحت تلك الفكرة الأولى: اسمه، اسمه، اسمه، تعويذة، ألم يكن هو الذى تراءى لى فى أحلك لحظات الشدة وكأن ما عداه مُحى تماما من حياتى؟ حياتى. هذه عادت تنبسط أمامى. تومض بالاحتمالات، مقدر لها أن تندمج فى حياته.
انتهيت من الضفيرة الفرنسية، واختارت لوسى مشبكا أزرق اللون لعقد الذيل. دلكت وجهها بقليل من الكريم الملطف قبل أن أدعها تذهب. كانت بشرتها مسمرة باستثناء ما خلف أذنيها، حيث يبهت اللون إلى لون الذرة الفاتح يشع بزغب ذهبى. قبلت رقبتها وأنا أهمس: لوسى، لوتشية، لمبة، وأطلقت سراحها. لوسى كنزى .. وفخى.
والآن إذ أسير صوب البحر، نحو حافة هذه القارة التى أعيش فيها، التى كدت أموت فيها، وحيث أنتظر أن تكبر ابنتى، وتبتعد عنى تدريجيا، أرى أشياء مختلفة عما رأيت فى ذلك الصيف منذ سنوات ستة. الرمال تبتلع فقاعات الزبد، لتغرق عميقا، عميقا، وتلحق بالبحر فى جوف الأرض، حيث لا نراها. ومع كل نوبة جزر للمياه الخضراء، يتخلى الرمل عن بعض منه لصالح البحر، ومع كل دفقة ماء، يلقى البحر برمل آخر يستحوذ عليه الشاطئ من جديد.
هذا الشريط الضيق من الشاطئ لا يعرف ــ على وجه البسيطة ــ شيئا بقدر ما يعرف تلك الأمواج البيضاء تسوطه، وتداعبه، وتنهار فوقه، وتندثر فيه. والزبد الأبيض لا يعرف إلا هذه الرمال تنتظره، تهب فى وجهه، وتمتصه. ولكن، ماذا تعرف الأمواج عن رمال الصحراء المتراصة الساخنة، اللابثة على مبعدة عشرين، بل عشرة أقدام، من الحافة التى تحفرها؟ وماذا يعرف الشاطئ عن الأعماق، عن البرودة، عن التيارات المعتملة على مبعدة قريبة، هناك، هناك.. ألا تراها؟ هناك، حيث يتغير لون الماء إلى زرقة غامقة