رفعت الولايات المتحدة قبل أربعة أعوام الحظر على تولى الأمريكيين السود منصب رئاسة الجمهورية وجربت رئيسا أسود. وها هى ترفع الحظر على تولى أمريكى من الديانة المورمونية منصب الرئاسة لتتصدر المسألة المورمونية مع الاقتصاد والأمن القومى قائمة القضايا التى يهتم بها الرأى العام الأمريكى فى الحملة الدائرة لانتخاب رئيس للجمهورية. يناقشون أيضا قضايا اجتماعية واخلاقية مثل الحق فى الاجهاض والزواج المثلى وقضية مستقبل التعليم. بالإضافة إلى هذه القضايا والمسائل تثار عادة على المستوى الأكاديمى وإلإعلامى أسئلة لها مغزاها.
يتصدر هذه الأسئلة السؤال التقليدى عن من هو الطرف الأقوى تأثيرا فى الخارج، شخص الرئيس أم المنصب، وما إذا كانت خلفيات الرؤساء تؤثر فى قراراتهم، وما إذا كان المنصب يغير طباع الرؤساء وسلوكياتهم.
جمعتنى بشخصيات أمريكية جلسات قضينا جانبا منها نناقش بعض تفاصيل الحملة الانتخابية الأولى لباراك اوباما، وأحداث وقعت على هامشها. دار وقتها نقاش طويل عن الذى سيلعبه لون المرشح فى تلك الانتخابات وربما فى مستقبل الولايات المتحدة. هذا الرجل الأسود الذى تجاسر فتقدم ليقفز فوق أسوار عديدة من أجل أن يحصل على أعلى منصب فى الولايات المتحدة، هل يفلح فى تغيير منظومة العلاقات السائدة فى المجتمع الأمريكى، وبخاصة فى الجانب المتعلق بالعلاقات بين السود والبيض؟. كان أمل ملايين السود أن تكون الفرصة قد حانت أخيرا ليقوم رئيس أمريكى بإنصاف الشعب الأسود بعد قرون شهدت أنواعا بشعة من العبودية والتمييز والازدراء والإقصاء بعيدا عن مراكز العلم والثروة والطبقة الوسطى.
حانت الفرصة. جاء أوباما مبشرا وداعيا ومفعما بالأمل. وكان لابد ألا يكتفى بلون بشرته ليشيع الأمل بين السود، جاء مزودا بوعود اجتماعية تقدمية وبرامج خلابة. حاول إقناع الناخبين أنه سينقل تجربته كناشط سياسى فى أحد أحياء شيكاغو. واقتنع البؤساء من السود الذين عاشوا على بصيص أمل كان قد أطلقه قبل عقود مارتن لوثر كنج. رأيت الألوف من هؤلاء السود يبكون فرحا فى ليلة باردة وهم يستمعون إلى نتيجة الانتخابات فى أحد ميادين شيكاغو قبل أن يطل عليهم من المنصة أول رجل أسود يختاره الناخبون رئيسا لأمريكا.
كان أمل الناخبين السود فى عام 2008 أن يكون باراك أوباما شخصا مختلفا. وظهر لهم بالفعل مختلفا. ظهر أمامهم كنموذج لمواطن أسود حقق الحلم الأمريكى وتخرج من إحدى قمم التعليم العالى صانعة نخبة السلطة والسوق والمال، واحتل فى جامعته مناصب كانت حكرا للطلبة البيض أبناء العائلات الكبرى. بدا للناخبين ذكيا وفصيحا ومؤهلا لأن يحقق التغيير المطلوب.
كنت واحدا من الناس الذين توقعوا للشعب الأسود فى أمريكا خيبة الأمل بعد أربع سنوات. وكنت واحدا من قليلين جدا حاولوا تبريد فرحة الذين توقعوا للشعب الفلسطينى إنصافا وعدالة على يد الرئيس الجديد. كنت واحدا من هؤلاء الذين كانت ثقتهم كبيرة فى قدرة النظام السياسى الأمريكى على الصمود فى وجه أحلام «مغامر» بسحنة غير بيضاء وأصول غير متجذرة فى تربة النخب القائدة والمسيطرة فى المجتمع الأمريكى. لم يخالجنى وقتها أدنى شك فى أن الآلة السياسية الضخمة التى تدير هذا المجتمع لن تسمح لباراك اوباما أن يحدث تغييرا مؤثرا. بذلوا جهودا خارقة. اتهموه بالإسلام ولم يحاولوا إثبات التهمة ولم يفلح هو فى إنكارها، اتهموه بأنه اشتراكى النزعة مستندين إلى برامجه كناشط سياسى، وتحت ضغط التهمتين لم يقترب للمساس بمصالح ومزايا الفئة المعززة فى النظام الأمريكى، فئة رجال المال والمصارف وكبار المديرين وقادة الأقلية اليهودية. فضل أن يبقى النظام على حاله رغم الأزمة، عن المجازفة بتنفيذ سياسات ووعود التزم بها كمرشح.
تقول استطلاعات الرأى إن السود فى أمريكا لا يبدون حماسة فى هذه الانتخابات كتلك التى قادتهم ومعهم أوباما إلى الفوز فى الانتخابات السابقة. خاب الأمل وتكسر الحلم. أوباما أمامهم من جديد ولكن غير أوباما الذى تعرفوا عليه قبل أربعة أعوام. أوباما الجديد فاقد القدرة على الابهار، وفاقد العزيمة على التجديد والتغيير. كل ما يريده الآن، كما قال فى المناظرة الأولى مع ميت رومنى، أن «يكمل ما بدأ». وهم يتساءلون إن كان حقا قد بدأ.
أخبرنى صديق أسود أنهم راقبوا باهتمام شديد «مسيرة» ميشيل أوباما زوجة الرئيس. يقول الصديق إن ميشيل أوباما بالنسبة له ولجماعات سوداء عديدة، كانت أهم من باراك أوباما، يذكرون لميشيل أنها هى التى تجرأت وهى طالبة لتعلن أنه لا يشرفها أن تكون مواطنة أمريكية، لأن حقوق المواطنة لا يستمتع بها إلا البيض الأغنياء. كان مثيرا لانتباه من يعرفون هذه الرواية عن الفتاة الثائرة خطاب ميشيل أمام المؤتمر العام الذى عقد فى مدينة شارلوت قبل أسبوعين، الذى أعلنت فيه بكل صراحة ووضوح، أنها فخورة بأمريكا وطنا لها «منذ اليوم الذى أعلن فيه المؤتمر العام السابق للحزب الديمقراطى فى سنة 2007، ترشيح زوجى باراك أوباما للانتخابات الرئاسية».
غريب أمر هذا السباق. يقف على طرف فيه باراك أوباما، الرجل القادم من «فضاء أسود» كان محظورا عليه الاقتراب من مواقع السلطة فى واشنطن، ويقف على الطرف الآخر ميت رومنى، الرجل القادم من «فضاء مورمونى»، كان أيضا محظورا عليه الاقتراب من مواقع السلطة فى واشنطن. معروف عن ميت رومنى أنه حفيد لزعيم من زعماء الطائفة المورمونية هرب بعائلته إلى المكسيك من ملاحقة الشرطة الفيدرالية بسبب إصراره على ممارسة طقس تعدد الزوجات الذى تبيحه ديانته. وهناك فى المكسيك أنجب جورج رومنى والد ميت رومنى الذى أصبح فيما بعد محافظا لولاية ميتشيجان، وتجرأ ذات مرة ورشح نفسه فى انتخابات الرئاسة عام 1968، وعندها تأكد أن مؤسسات النظام السياسى الأمريكى ما زالت تفرض الحظر على المورمونيين.
وكما حدث مع أوباما عندما رشح نفسه للرئاسة فى 2007، حين احتلت إندونيسيا وكينيا والجذور الإسلامية الاهتمام، تحتل الآن ولاية يوتا والديانة المورمونية وتاريخها وطقوسها وتقاليدها اهتمام الرأى العام الأمريكى. يلفت النظر، أن أوباما الذى تعرض للازدراء بسبب لون بشرته، يجد نفسه منافسا لشخص يتعرض هو الآخر لازدراء مماثل بسبب عقيدته الدينية. وفى استطلاع أجرى فى فبراير الماضى ذكر 18 % أنهم لن يصوتوا لشخص ينتمى إلى العقيدة المورمونية. وليس هذا جديدا ففى عام 1960 قرر 21 % أنهم لن يصوتوا لجون كينيدى لأنه كاثوليكى.
استطيع أن أجد تبريرا مقنعا للاهتمام الشعبى بالطائفة المورمونية، وإن كنت لا أجد تبريرا مقنعا التشهير بسمعتها وازدراء طقوسها. الناس فى الانتخابات تريد أن تعرف كل شىء، إن أمكن، عن الشخص الذى يتقدم للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية. الناس فى كل الدنيا على ما أظن، من حقها ألا يفاجئها رئيس جمهورية بمعلومات وحقائق فى سجل حياته لم يطلعها عليها عندما رشح نفسه. هؤلاء المواطنون يريدون الآن أن يتحققوا من أن المورمونية التى يعتنقها ميت رومنى لن تؤثر على سياساته وقراراته عندما يصبح رئيسا. الناخب الأمريكى لا يعرف عنها الكثير، يسمع عن جوانب خفية فى طقوسها وكتبها المقدسة وأنماط الصلاة. لا أظن أنه يهتم كثيرا بحقيقة أن المورمونية تدعو للعمل الطيب، وتفضله على الانشغال بالدعوة للتحقق من أو التأمل فى طيبة الخالق. يريد الناخب أن يطمئن إلى أنه لا علاقة على الاطلاق تربط المورمونية كدين بالسياسة، ولعله اطمأن بالفعل تحت وابل دعاية تؤكد أن المورمونية عقيدة بلا فقه أو طموحات سياسية.
أمريكا دائما تجرب. جربت أسود اللون رئيسا بعد أن كانت مجرد الفكرة خيانة، وجربت قبله الكاثوليكى، وكانت الفكرة عبر السنين غير مألوفة أو مقبولة، وها هى تجرب المورمونى، القادم من عقيدة خرجت عن المسيحية وقاومت قمع الدولة واستمرت تنهض، وها هى أخيرا ،وبرضاء القوى النافذة فى المؤسسة الأمريكية الحاكمة، تقدم مرشحا للرئاسة.