«شهد» أى رأى ووعى وأدرك، ومنها «مشهد» وهو الحدث والمكان والأشخاص والملابسات والتفاصيل، و«الشهادة» هى الإقرار بالشىء، و«الشاهِد» هو من يقر بما وعاه وأدركه فيثبته. والإنسان إن شهد يكون شاهدا إلى جانب كل وظائفه الأخرى كأب مثلا أو ابن، كمواطن، كمعلم أو مهندس أو سائق، أى بجزء فقط من كينونته، أما إن استشهد فيصبح «شهيدا»، والكلمة فى صيغة التأكيد لأن هذا الشاهد وظيفته الوحيدة من الآن وحتى القيامة هى أن يشهد، هو لن يعود أبدا إلى أى صفة من الصفات التى كانت صفاته، لن يعود أبا أو ابنا أو سائقا أو مهندسا، كيانه كله أصبح مكرسا للشهادة على الحدث: على حدث استشهاده.
الشهيد فى حالة شهادة دائمة، يحكى، يصف المشهد، يَذكُر الرفاق الذى كان وسطهم حين سقط، يصف اقتحام الرصاصة لبطنه ومرورها النارى خلال أحشائه وخروجها المقتحم أيضا من ظهره، يحكى عن آماله وفرحته، ولماذا كان مع الرفاق فى عرض الطريق، يحكى عما دار فى وجدانه لحظة أن هوى وكيف كان جزعه على أمه ووقع خبره عليها. وحين ينتهى من الحكى يبدأ من جديد، يذكر تفصيلة جديدة، يركز على نقطة كانت غائبة، يصف البرودة تنساب إليه والدماء ينساب منه، يحكى عن قاتله. الشهيد يحكى لمن أحبوه، ولمن لمسهم ولو للحظة ولمن لم يعرفوه ولكن أسرتهم سيرته. يحكى لهم فيصبحون شهودا يتماهون مع الحكاية، يصبحون الحكاية فيتضاعف الحكى.
فى رواية جون برادبرى «فهرنهايت ٤٥١» (١٩٥٣) ــ والتى أخرجها تروفو فى فيلم بنفس الاسم فى ١٩٦٦ ــ يتصور الكاتب أمريكا المستقبل وقد حُرِّمت فيها الكتب فيدور رجال الحريق يفتشون عنها ويحرقونها. والمقاومة هى أن يحفظ المعارضون نصوص الكتب عن ظهر قلب، يتبنى الفرد كتابا أو كتبا فتصير جزءا من كينونته، يحافظ عليها ويحكيها لكى لا تزول. وهكذا مع الشهداء: الأحياء يحكونهم. هذه الهمهمة الصاعدة دوما من أرضنا إلى السماء هى سرديات الشهداء. كل الحكايات ــ كلها، حكاية كل شهيد ــ تحكى باستمرار، على مدار الليل ومدار النهار، تحكى فى منظومة حية، لها نسق تخفت فيه حكايات لتسطع حكايات بعينها فى مواسم بعينها، الكل ينسق معا فيعلو صوت حكايات مينا دانيال وبيتر عادل ومايكل مسعد ورفاقهم الـ٢٤ فى الأسبوع الثانى من أكتوبر، وحكايات محمد منصور العلمى وأحمد طارق وماجد مدحت وبهاء السنوسى ومحمد صلاح خضر وإبراهيم قطب ورفاقهم الـ٥٥ فى الأسبوع الثالث من نوفمبر، ثم أحمد سرور، ثم الحسينى أبوضيف ورفاقه فى الأسبوع الأول من ديسمبر.. ونأتى الآن فى مواسم الشهداء بإذن الله إلى الشيخ عماد عفت، وشهيدى جامعة عين شمس علاء عبدالهادى ومحمد مصطفى ورفاقهم الـ٢٣ الذين قتلوا فى أو حول أحداث شارع مجلس الوزراء. ومن هؤلاء الشهداء محمد محيى حسين، ٢٦ سنة، ولنفسح وننتبه لصوت يتصاعد فى سردية فردية ليحكى عنه:
«باختصار أنا اسمى خالد وكنت من الناس اللى اتاخدت واتعذبت فى أحداث مجلس الوزراء.. ملخص قصتى.. إنى اتقبض عليا واتسرقت واتسحلت واتضربت واتكهربت واتعذبت ١٦ ساعة متواصلين.. وبعد بهدلة الـ ١٦ ساعة وبعد ما كنت أنا وغيرى بننزف وبنموت اتكلبش كل اتنين مننا فى كَلَبْش عشان نترحل على النيابة.. كنت أنا و«محمد محيى» ــ اللى ماكنتش أعرفه ــ فى كلبش واحد لأننا الأكثر إصابات فى المجموعة وماقدرناش نقوم نقف زيهم فكلبشونا مع بعض ورمونا فى عربية الترحيلات. كنا إحنا الاتنين بننزف وفى حالة إعياء شديدة وكنا نايمين على أرض العربية عكس بعض وإيدنا متكلبشة. فضل ماسك إيدى طول الطريق عشان الكلبش كان تاعبه قوى. كان منيم راسى على فخده عشان اقرَّب إيدى وإيدينا احنا الاتنين متوجعناش. مافتكرش إنى بصيت أصلا على وشه، ولا فاكر كلمة من اللى كان بيقولها فى عربية الترحيلات، بس أول ما وصلنا نيابة زينهم وأول ما نزلنا من العربية محمد محيى مات، وأنا ربنا كان له حكمة فى إنى أعيش.
مات وهو معايا فى نفس الكلبش وأنا ماعرفتش، وفكونى منه وماعرفتش إنه مات إلا بعدها بأكتر من ١٠ أيام فى يوم العرض على قاضى التحقيقات لما عسكرى أمن مركزى قابلنى بالصدفة وكان من اللى نقلونا النيابة ولما سألته على اللى كان معايا فى الكلبش قاللى مات.
وفى أول جلسة قابلت اتنين كانوا معانا فى القضية وأكدوا لى المعلومة إنهم حاولوا يسعفوه بس كان خلاص.
ماعرفش أى معلومات عنه غير اسمه اللى عرفته من الناس بعد كده. ماشُفتش أهله فى أى وقفة أو أى مؤتمر. ماعرفش عنه أى حاجة بس بجد حاسس ان دمه فى رقبتى..».
المهندس خالد وثق بفيديو منشور إصاباته بعد أسبوع من العلاج فى مستشفى سيد جلال: جرحين مضمدين فى الرأس المحلوق، ذراعين فى الجبس، آثار مرعبة على الظهر، جراح غائرة وثقوب مثل ثقوب الرصاص فى الساقين. ووثق خبرته السريالية مع النيابة والقضاء، فطبعا هو من المتهمين ــ فى «قضية مجلس الوزراء» الشهيرة التى نشهد تطوراتها العبثية الآن: «الحمد لله بقيت تمام بس لسه متهم فى قضية وأنا مجنى عليا زى كل المتهمين تقريبا. واللى قتل الشيخ عماد والدكتور علاء وغيرهم واللى عرّى ست البنات واللى عذبنا وموت محمد محيى مش متهم أساسا». لكن، وبالأساس، المهندس خالد لَـمَسَه الشهيد، اتكلبش معاه إيد مع إيد: «لكن الحقيقة الحاجة الوحيدة اللى معذبانى بجد هو محمد محيى. أرجوكم أبوس إيديكم اعرفوا عنه أى معلومات وحاولوا توصلوا لأهله أو على الأقل بلاش تنسوه فى وسط الشهداء. اسمه بالكامل: محمد محيى حسين».
محمد محيى حسين. ٢٦ سنة. ترقى فى حجز محكمة جنوب القاهرة فى زينهم وكان يعانى من جراح بالرأس وكسر بالضلع الأيمن وتهتك بالصدر وأشياء أخرى، وكان هذا يوم ١٨ ديسمبر ٢٠١١. مش ناسيين. ومش هننسى. «زرع الأمل والأمانى له طريق وأصول»، وهؤلاء الشباب وغيرهم خرجوا ليزرعوا الأمل فحصدوا المرار. لكن القصة لم تنته. انتبه. انتبه واصغ جيدا لهذه الهمهمة المتصاعدة.
وانتبه أيضا إلى حكايات من لا زالوا معنا فى الدنيا: محمد صلاح سلطان، الشاب الذى قبضوا عليه حين لم يجدوا والده القيادى فى جماعة الإخوان ــ لكنهم لم يطلقوا سراحه بعد حبس أبيه. يؤجلون محاكمته فيضرب عن الطعام فيستمرون فى التأجيل. وصل فى إضرابه الآن لليوم الـ٣٢٦، لا يقوى على الحركة ويقول الأطباء إن أجهزته أصابها ضرر عظيم. صورة له راقد يمسك بكل القوة الباقية له بيد أبيه المحنى عليه لمست قلوب كل من رآها. والدته فى مرحلة متقدمة من السرطان. أبوه يطلب إنزال أى عقاب به هو وإخلاء سبيل ابنه. فماذا تفعل السلطات؟ تنتزع الأب من جانب ابنه وتودعه فى سجن آخر تحت حراسة مشددة، وتسحب الكتب والراديو من الابن وتنبه حراسه بعدم الحديث معه وعدم إتاحة سماع الراديو له ــ وتؤجل محاكمته مرة جديدة، فيضرب أيضا عن تلقى العلاجات. تذكروا أنه لم يفعل شيئا سوى بنوته لأبيه، وما بقى له هو مقاومة القهر عن طريق حرمانهم من الجسد الذى يتخذوه سبيلا لقهره. وحين يشهد محمد سلطان، حين يصير شهيدا مكرسا يحكى حكايته، هل يدركون كم ستكون هذه الحكاية دامغة؟ هل يدركون كم الأحياء من مختلف الأطياف الذين سيحفظونها حكايتهم؟ وكم سبق الإصرار والترصد الظالم الذى ستحكيه؟ مئات الأيام من الظلم بكل تفاصيلها اليومية الدقيقة، فيالها من إضافة لسردية شهدائنا! أليس هناك عاقل فى السلطة يحول بينها وبين ضم هذا الشاب إلى منظومة الشهداء؟
وأخيرا: نحن فى الذكرى الثالثة لاستشهاد رامى الشرقاوى، وأيضا فى عيد ميلاد سناء سيف. كانا صديقين. كان عنده ٢٦ سنة وقتلوه برصاصتين ميرى فى صدره. فى عيد ميلادها السنة اللى فاتت واللى قبلها سناء راحت قضت اليوم مع والدة رامى. الآن سناء تكمل واحد وعشرين سنة وتقضى عيد ميلادها فى سجن القناطر مع يارا وناهد وسلوى وزميلاتهن المحبوسات ٣ سنوات لحساب مسيرة الاتحادية حيث سار الشباب يحملون نص مشروع اقتراح المجلس الوطنى لحقوق الإنسان بتعديل قانون التظاهر ليوصلوه رمزيا إلى قصر الرئاسة، فضربهم البلطجية ثم قبضوا عليهم ثم سجنوهم.
كل سنة وإنت طيبة يا سُنسُن، وكل سنة واحنا فاكرينك يا رامى، زى كل الشهداء:
كان جسم فى تراب الوطن مثواه
كان قلب كل الناس جواه
عظم شهيدك. كل دم يسيل
على أرض بلادنا عظيم الجاه.
المجد للشهداء والحرية للمعتقلين.
•••
اقتباسات الشعر بتصرف من أبوالكل، فؤاد حداد