نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للمهندس مؤمن موسى، تناول فيه الأسباب التى جعلت الهند رائدة فى مجال تكنولوجيا المعلومات... نعرض من المقال ما يلى:
فى العقود الأخيرة، أصبحت الهند واحدة من القوى الرائدة فى مجال تكنولوجيا المعلومات على مستوى العالم. تسارعت وتيرة التقدم التكنولوجى فى البلاد، وأصبحت الهند وجهة مفضلة للعديد من الشركات العالمية فى مجال البرمجة وتطوير البرمجيات. كذلك، يعد العنصر البشرى فى الهند من أكثر العناصر انتشارا فى سوق العمل الخاص بمجال تكنولوجيا المعلومات على مستوى العالم، حيث لا تكاد تخلو أى مؤسسة من كبريات تلك الصناعة من موظفين يحملون الجنسية الهندية.
يعود تفوق الهند فى هذا المجال إلى عدة أسباب تتنوع بين: البنية التحتية، التعليم، والابتكار، وغيرها. فى هذا المقال، نستعرض بعض الأسباب التى تفسر تفوق الهند فى تكنولوجيا المعلومات.
• • •
تعتبر البنية التحتية الرقمية لأى دولة أمرا أساسيا لتطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات، إذ تعتمد تلك الصناعة على جودة شبكة الإنترنت بشكل رئيسى وضمان استقرارها وسرعتها. فى الهند، شهدت البنية التحتية التكنولوجية تحسينات كبيرة فى السنوات الأخيرة من خلال توسيع شبكات الإنترنت، والحرص على زيادة سعة تداول البيانات خلالها، وتعزيز جودة الاتصالات فى ربوع البلاد، وتغطية المناطق النائية.
حاليا، يوجد أكثر من 900 مليون مستخدم إنترنت فى الهند، مما يجعلها ثانى أكبر دولة من حيث عدد الأشخاص المستخدمين بعد الصين. كان إطلاق مشروع «الهند الرقمية» فى عام 2015 أحد الأسباب الرئيسية لاعتماد الإنترنت السريع فى البلاد. واستهدف هذا المشروع جعل الخدمات الحكومية متاحة رقميا للمواطنين والمواطنات، وإنشاء البنية التحتية اللازمة مع توافر شبكة الجيل الرابع بتكلفة منخفضة، ثم الجيل الخامس لاحقا. وقد أسهم هذا التطوير فى خلق بيئة مناسبة لتنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات.
• • •
لعبت السياسات التعليمية الهندية أيضا دورا حاسما فى بناء قاعدة مهنية للشباب الهندى فى مجال تكنولوجيا المعلومات. حيث تمتلك الهند نظاما تعليميا قويا يركز على مواكبة أحدث التقنيات وتطورات علم الحوسبة. الجامعات والمعاهد التقنية فى الهند تقدم برامج تعليمية عالية الجودة فى مجالات مثل علوم الحاسوب وهندسة البرمجيات، مما يمكن الطلبة من اكتساب المهارات اللازمة للدخول فى صناعة تكنولوجيا المعلومات. وقد دعمت حكومة الهند 23 معهدا متخصصا فى تدريس تكنولوجيا المعلومات بما يوازى 880 مليون دولار فى العام الدراسى 2016 / 2017 بحيث استفاد من هذا الدعم نحو 11 مليون طالب وطالبة. وطبقا لموقع «ستاتيستا» الإحصائى، من المتوقع أن يصل حجم الإنفاق على التعليم التكنولوجى فى الهند إلى ما يقارب 10 مليارات دولار بحلول عام 2025.
• • •
تضم الهند كذلك إحدى أكثر القوى العاملة ضخامة وتنوعا ومرونة فى العالم. تتيح القاعدة الضخمة من العمال المؤهلين لسوق العمل تنافسية كبيرة، وبالتالى تكلفة أقل. كما اشتهر العاملون بمرونة التكيف مع التغيرات والتطورات فى أنظمة العمل وطرق إدارة المشروعات، بالإضافة إلى دعمهم بعضهم بعضا والاستفادة من خبرات سابقيهم ممن حصلوا على فرص عمل ومناصب هامة فى المؤسسات الكبرى وشركات البرمجيات حول العالم. إحدى طرق الدعم والتكاتف بين أبناء الهند، هى حرصهم على نشر محتوى تعليمى وتدريبى خاص بتكنولوجيا المعلومات من خلال مواقع التواصل الاجتماعى. فى تقرير أعدته شبكة سى إن بى سى الأمريكية فى سبتمبر من العام الماضى، صرح المدير الإقليمى لشركة «يوتيوب» بأن عدد ساعات صانعى المحتوى فى الهند قد زاد بنحو 40% فى السنوات الثلاث الماضية، متضمنة ما يقرب من 77% من هذا المحتوى تحت تصنيف التعليم والتدريب.
• • •
يعد اتقان اللغة الإنجليزية من قبل الكثير من الهنود ميزة إضافية. اللغة الإنجليزية هى لغة العمل الرئيسية فى صناعة تكنولوجيا المعلومات، ولهذا فإن قوة العمل الهندية التى تجيد هذه اللغة تجعل التفاعل والتعاون مع العملاء الدوليين أكثر فاعلية.
• • •
شهدت الهند نموا ملحوظا فى مجال ريادة الأعمال والابتكار. يتمتع الشباب فى الهند بحماسة وإبداع يساهم فى تطوير حلول فريدة ومبتكرة فى مجال تكنولوجيا المعلومات. تشجيع الحكومة على برامج الابتكار ودعم الشركات الناشئة يلعبان دورا هاما فى هذا السياق. وقامت الهند بتبنى سلسلة من التدابير والمبادرات لدعم وتعزيز نمو وازدهار الشركات الناشئة فى مجال تكنولوجيا المعلومات. ومن بين الإجراءات:
أولا: بيئة تشريعية وتنظيمية مشجعة، حيث تم تبسيط إجراءات التأسيس والتشغيل للشركات الناشئة من خلال توفير بيئة تشريعية وتنظيمية مشجعة. وذلك يتضمن تسهيلات فى إصدار التراخيص وتقليل العقبات البيروقراطية.
ثانيا: المساحات الابتكارية والمراكز التكنولوجية، حيث تم إنشاء مساحات الابتكار ومراكز تكنولوجيا المعلومات والعلوم التى توفر بيئة حاضنة للشركات الناشئة لتبادل الأفكار وتطوير مشاريعها.
ثالثا: الدعم المالى وتقديم التمويل ورأس المال اللازم للشركات الناشئة من خلال المؤسسات المالية وبرامج الدعم الحكومية.
رابعا: برامج التسريع Acceleration Programs التى تقدم توجيها ودعما فنيا للشركات الناشئة، بما فى ذلك توفير فرص للتواصل مع مستثمرين وخبراء صناعة.
خامسا: تقديم برامج تدريب وتأهيل للرياديين والموظفين العاملين فى الشركات الناشئة لتعزيز مهاراتهم وفهمهم لأفضل الممارسات فى مجال التكنولوجيا.
لاشك أن هذه الإجراءات والمبادرات تعزز من مواهب وإمكانيات الشركات الناشئة فى مجال تكنولوجيا المعلومات، وتسهم فى إطلاق وتعزيز نموها.
• • •
هناك أيضا الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتجذب الهند بشكل كبير هذه الاستثمارات فى قطاع تكنولوجيا المعلومات. تعتبر الشركات العالمية أن الهند هى واحدة من أفضل الأماكن لاستثمار رءوس الأموال، وهذا يسهم فى تعزيز التقنيات وتطوير الصناعة فى البلاد. طبقا لدراسة أجراها موقع Mordor Intelligence، تبلغ قيمة سوق تكنولوجيا المعلومات (تقديم حلول ذكية وتطبيقات) وخدمات البيانات الكبيرة Big Data فى الهند 2.17 مليار دولار أمريكى فى العام الماضى، ومن المتوقع أن تصل إلى 3.38 مليار دولار أمريكى خلال السنوات الأربع المقبلة، مسجلة معدل نمو سنوى مركب يبلغ نحو 7.66٪.
فى الوقت الحالى، تقوم غالبية الشركات العالمية بالاعتماد على خدمات Outsourcing أو التعهيد (استخدام واستئجار كفاءات وقوى وأفراد ووسائل وخدمات فى مجال تكنولوجيا المعلومات) من الهند، والتى تمثل نحو 55% من سوق مصادر خدمات التعهيد العالمية، والتى قدرت قيمتها بنحو 200ــ250 مليار دولار أمريكى فى 2019ــ2020 طبقا لمجلة «دبلوماتيست».
لقد نما حجم سوق صناعة تكنولوجيا المعلومات بمكوناته المختلفة بمعدلات سريعة من نحو 118 مليار دولار أمريكى إلى 245 مليار دولار أمريكى خلال العقد الأخير. ومن المتوقع أن تنمو الإيرادات بشكل أكبر فى السنوات المقبلة بمعدل نمو متسارع، وقد تصل إلى 350 مليار دولار أمريكى بحلول عام 2025 طبقا لتقرير نشره مجلس ترويج التجارة الهندى TPCI.
• • •
اهتمام الهند بتوفير كل الدعم لصناعة تكنولوجيا المعلومات يأتى مع تزايد التأثير الإيجابى لتلك الصناعة الهامة على الاقتصاد الهندى. نرى ذلك من خلال تنامى نسبة إسهام القطاع فى الناتج المحلى الإجمالى خلال الفترة من 2009 حتى 2023، من 5.8% إلى 7.5%.
وإذا كانت الهند تجمع بين البنية التحتية الرقمية، والتعليم القوى، والقوة العاملة المؤهلة، واللغة الإنجليزية الممتازة، وروح الابتكار، والاستثمارات الأجنبية المباشرة، مما يجعلها واحدة من القوى الرائدة فى مجال تكنولوجيا المعلومات؛ فإنها أيضا تواجه بعض التحديات، مثل:
أولا: تحدى تأمين المعلومات، حيث تواجه الشركات والمؤسسات فى الهند تحديات كبيرة فى مجال أمن المعلومات، حيث تزداد التهديدات السيبرانية والاختراقات بشكل متزايد.
ثانيا: بعض التحديات فى البنية التحتية، مثل ضعف الشبكة الكهربائية، وهو العنصر المؤثر على شبكة الإنترنت، والقادر بالتالى على تقييد تطوير تكنولوجيا المعلومات.
ثالثا: زيادة استهلاك الطاقة وتأثير الصناعة التكنولوجية على البيئة قد تشكل تحديات بيئية تتطلب حلولا مستدامة.
رابعا: التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية، مثل الحروب والأزمات المالية، التى يمكنها أن تؤثر على صناعة تكنولوجيا المعلومات فى الهند.
وتتطلب تحديات مثل هذه جهودا مستمرة وتعاونا بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية لتحقيق تطور مستدام فى قطاع تكنولوجيا المعلومات فى الهند، وهى نفس الأطراف الثلاثة التى يمكن للتعاون بينها أن يحقق نهضة تكنولوجية فى أى بلد آخر يريد الاستفادة من التجربة الهندية.
النص الأصلي