نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب «سوسن الأبطح» وجاء فيه:
كأرغفة الخبر الساخن بيعت رائعة فيكتور هوجو «أحدب نوتردام» فى اليوم التالى للحريق المروع بعد أن أتى على أجزاء من الكاتدرائية التى تدور فيها أحداث الرواية. لم تبقَ نسخة من أى طبعة، من أكثرها شعبية إلى أغلاها سعرا. كُتبت المقالات الطوال فى الصحف عن نبوءة هوجو وقدرته الخارقة والعجائبية، على وصف ما شاهده ملايين المتفرجين حول العالم مباشرة على شاشاتهم، قبل مائتى سنة من وقوع الكارثة.
والكلام على نبوءة الأدباء شائعة ومحببة. يقال كثيرا إن غادة السمان تنبأت بالحرب الأهلية اللبنانية فى روايتها «بيروت 75»، وهى نفسها تصر على أنها تحسست الآلام وما سيأتى، خلال زياراتها لمستشفيات المجانين، وأحياء الفقر المدقع، وركوبها قوارب الصيادين، كما يتحسس أعمى كتابا بلغة برايل. ويُنسب إلى الأديب سليم بركات أنه تنبأ هو الآخر بهزيمة يونيو 67، حين أصدر روايته «ستة أيام»، وإلى الشاعر البردونى أنه وصف حرب اليمن قبل وقوعها بسنوات طويلة فى قصيدته «سفاح العمران» هو الذى يعد «مستبصرا أعمى» لقوة بصيرته رغم فقده النظر طفلا.
إنما بالعودة إلى فيكتور هوجو فالأمر مختلف بالتأكيد، لأنه ذهب بعيدا جدا، فى عشقه لهذا المعلم الدينى لا من باب التدين وهو الذى كان مؤمنا على طريقته، بل من زاوية الفن ومن باب حفظ التراث، ومقاومة الغباء. وما كتبه لم يكن من باب استشراف المستقبل، بقدر ما هو وعى ببشاعة واقعه، ورفض للاستسلام له. مَن يقرأ الرواية يفاجأ لا بالمقطع المتداول حول احتراق الكنيسة واللهب المتطاير منها، بل بالمعرفة الدقيقة لهوجو بتاريخ هذه الكاتدرائية ووصفه الدقيق لها، وللمراحل التى مرت بها، والتطورات الجمالية والتشويهية التى طرأت عليها. ويعجب القارئ بهجوم الكاتب المنهجى على الأيدى السوداء التى خربت باسم التحسين، والأذواق التى تفتقر إلى الحد الأدنى من المهارة الهندسية والعمرانية. الرواية أشبه بصرخة لإنقاذ ما تبقى من هذا الصرح بعد أن أساء إليه الفساد أكثر مما أساءت إليه الثورات و«قطع منه لحمه الحى» و«قتل البناء فى رمزيته وشكله» وحاول أن يصنعه مرة أخرى بـ «ادعاء» و«غرور»، إلى أن ينتهى بخلاصة قرأها معلقة فى الكنيسة نفسها تقول: «الأيام عمياء والناس حمقى».
حزن الرجل الذى كانت حياته الشخصية والعائلية فجائع لا تنتهى، على ما «لم يعد بناء كاملا نموذجيا»، صار بلا هوية. «لم يعد رومانيا كما أنه لم يعد قوطيا». تأسف على الزجاج الملون الذى استبدل به الأبيض بحجة الحاجة إلى نفاذ الضوء، والأبواب المشوَهة التى رُكِبت، والتماثيل التى نُقلت، لكنه تفاءل بأن الهيكل الرئيسى رغم كل التخريب لا يزال صامدا، والعلاقة بين أجزائه محفوظة، وإنقاذها لا يزال متاحا، وكان له الفضل فى ذلك. للمرة الثانية احتفى الفرنسيون هذه المرة، وكما أديبهم الكبير، بأن الحريق الذى أدمى قلوبهم أبقى لهم الأساس الذى يُعاد البناء عليه مع البرجين والواجهة التى كتب فيها هوجو ما يستحق أن يُقرأ وتعاد قراءته.
حقا إنهم أبناء تاريخهم وسلالة شاعرهم. هل اقتبس الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عن أديب الأمة حين قال عن الكاتدرائية وهو يقف أمامها وقد أنهكتها النيران: «أنا حزين لرؤية جزء منا يحترق، إنها تمثل تاريخنا، أدبنا، خيالنا، المكان الذى عشنا فيه أهم أحداثنا، الأوبئة، الحروب، الانتصارات». تكاد تكون كلمة الرئيس مقطعا من «أحدب نوتردام». وحزن الفرنسيين وتشاؤمهم واعتبارهم هذه الكارثة نذير شؤم قد يدل على انهيارات فى أماكن أخرى أقل رمزية، شبيه أيضا بما سطره هوجو، وهو يستبطن انعكاسات التخريب فى العمران، وما يستجره من تصدعات فى الأذهان. هى الفكرة نفسها التى بُنيت عليها الرواية بمخاوفها وهواجسها، وتحسبها.
يقول هوجو صراحة إن بطله الأحدب «كوزيمودو» الذى يقرع الأجراس، هو الكاتدرائية مجسَدة فى صورة إنسان. الصرح هو بالنسبة إلى هوجو كائن يتنفس. هو هذا الأحدب ببشاعته وجماله، تشوهاته وعاهاته. فقد «اتخذ كوزيمودو شكل الكنيسة التى عاش فيها كما يتخذ البزاق شكل صدفته».
جسم كوزيمودو لم يتشكل هو فقط بشكل الكاتدرائية، بل ذهنه أيضا. فكيف كانت حالة نفسه، وما الشكل الذى اتخذته تحت هذا الغطاء المعقد فى هذه الحياة المتوحشة؟ هذا ما تدور حوله القصة الشهيرة فى أعماقها الأبعد غورا. والفرنسيون هذه المرة أيضا كانوا يتحدثون عن الكاتدرائية بوصفها إنسانا، قالوا إن رئيسهم عادها وهى فى السرير. تكلموا عن وجعها، عن سلامة أجزاء جسدها، عن روحها التى تظلل عاصمتهم.
شخصنة نوتردام، وتحويلها إلى كائن حى، له حياته ومساره الذى يدب على الأرض هو الذى أعطى «أحدب نوتردام» نكهتها، والرسالة قوتها.
انتصرت «أحدب نوتردام» على رواية «البؤساء» رغم أن هذه الأخيرة تفوقها روعة. مرة أخرى، يتبين أن الأدب الذى لا يُنسى هو الذى يكون ضمير الشعوب وصوتها وحنجرتها، ويصور تجاعيد وجهها كما نضارتها وشبابها. يغفو الأحدب سنين ويعود لينتفض عند كل مفصل كشخصية خالدة لا تُنسى.
من أروع ما رأيناه فى الأيام الفائتة أن يتحدث كل فرنسى من أصغر طفل إلى رئيس الجمهورية كأنه ينطق بلسان هوجو ويدافع عما كتبه قبل قرنين، بالطريقة عينها والحماسة ذاتها. إنهم يصفونها مثله تماما بأنها الكاتدرائية «المركزية» وبأنها نوع من «خيال» و«أسطورة»، «كل واجهة، كل حجر، من هذا الأثر البديع هو صفحة لا لتاريخ البلاد فقط بل لتاريخ العلم والفن أيضا». مَن قال إن تعليم الأدب الكبير لا يُجدى نفعا، ولا يبنى وطنا أو يهذب نفسا، عليه أن يراجع حساباته على ضوء «الحريق الفرنسى الكبير».