عذرا عزيزى القارئ فالعنوان أقسى من أن تتحمله لو أنك مازلت تتوقع أن تنال مصر منزلتها التى تليق بتاريخها العظيم وبمواردها وطاقاتها غير المستغلة، كما أن العنوان يحمل إليك الكثير من علامات التعجّب لو أنك مازلت تذكر رواندا كبلد أفريقى بائس أنهكته الحرب الأهلية عبر سنوات عجاف استمرت من عام 1990 وحتى عام 1994 وراح ضحيتها نحو مليون شخص!.
رواندا التى لا نعرفها حققت فى عام 2013 معدلا لنمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بلغ 4.7%، سرعان ما ارتفع إلى 7% عام 2014 متخطيا بذلك سقف التوقعات البالغ 6% وتشير التنبؤات أن معدل النمو المذكور يمكنه أن يصل إلى 7.5% عامى 2016 و2017.
فإذا علمت أن مصر تحاول جاهدة أن تصل بمعدلات النمو إلى ما دون الـ 5% للعام المالى الجارى فسوف تدرك أهمية أن تطمح إلى اللحاق برواندا!
***
خرجت رواندا من حرب أهلية استطاعت فى أعقابها أن تعقد صلحا بين الهوتو والتوتسى ثم اتبعت استراتيجية ناجحة للتنمية المستدامة عبر تحقيق النمو الاحتوائى الذى يهدف إلى تحقيق التوازن المجتمعى وشمول عوائد النمو لمختلف قطاعات المجتمع، وأحدثت طفرة فى التخطيط العمرانى وارتفعت نسبة المساكن المرفّقة بشكل جيد والمؤهلة للعيش الكريم فى المناطق الريفية من 37.5% عام 2012 إلى 53% عام 2014. فى مصر يسكن العشوائيات نحو 20% من عدد السكان وتزداد النسبة كثيرا إذا ما تم ضم سكّان القرى والمناطق الفقيرة والأكثر فقرا.
معدل التضخم السنوى المستهدف فى رواندا لعام 2016 يبلغ 5% (أى تقريبا ثلث معدل التضخم المصرى الرسمى إلا قليلا حيث بلغ فى نهاية يونيو 2016، 14.8% وفقا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء).
النسبة الأكبر من سكان رواندا مازالت تسكن الريف بنسبة 83% من الكتلة السكانية (أى بنحو 10.5 مليون رواندى)، لكن استراتيجية التنمية والحد من الفقر «الثانية» (2013ــ2018) تقضى بالتوسع فى إقامة المناطق الاقتصادية وتطوير النظم اللوجيستية الرواندية بهدف زيادة الصادرات التى مازالت تمثّل نحو 25% من الواردات خلال عامى 2013 و2014.
لكن المهم أن رواندا تسير بثبات نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية متخطية العديد من العقبات والمعدلات المتوقعة للإنجاز. رواندا لديها خطط كبيرة للتنمية الصناعية وتنمية الخدمات وخاصة الخدمات السياحية والتى من أبرزها المخطط العام لتطوير حزام «كيفو» KivuــBelt Tourism Master Plan والتى بمقتضاها يتم تحويل هذا الإقليم الواقع غرب البلاد إلى منطقة سياحية بمواصفات عالمية. نجحت رواندا فى تسجيل تغيّر لافت خلال العقد الماضى لتتحول إلى قصة نجاح حقيقية حيث أصبحت مركزًا اقتصاديًا وتكنولوجيًا فى المنطقة، وتمكنت من جذب أكثر من مليون سائح عام 2014.
***
بالأمس القريب وقع اختيار الأمم المتحدة على العاصمة الرواندية «كيجالى» كأفضل عاصمة فى أفريقيا، وتتميز العاصمة الرواندية بالنظافة والأمان الشديدين وتقدم تجربة مميزة للتسوق والسياحة، وتضم المدينة العديد من المتاحف مثل المتحف الوطنى لرواندا ومتحف كاندت البيت للتاريخ الطبيعى فضلا عن الفنادق العالمية ذات الخدمة السياحية المميزة.
نظرة الاستعلاء التى شيّع بها الشعب المصرى كل شعوب أفريقيا لم تعد فى محلّها، وفكرة الأخ الأكبر الذى يعرف أكثر ويلقى بفضلة ما يملك إلى الجار الصغير الفقير لم تعد قائمة إلا فى الأذهان البالية. فتحت العولمة جميع الأسواق أمام المستثمر يتخيّر منها حيث يشاء، هنا استثمار سياحى يبنى على الميزة النسبية والتنافسية للموقع الجغرافى لهذه الدولة، وهناك استثمار زراعى يبنى على طاقات وإنتاجية الأراضى الزراعية فى تلك الدولة، هناك دولة تصلح موطنا للصناعات الثقيلة وأخرى تصلح مركزا للتصدير أو التسويق أو خدمات التجارة المختلفة.
الدول الأفريقية تنافس على مختلف تلك الأصعدة وكما فوجئ المشجع المصرى التقليدى لكرة القدم بسرعة تفوق اللاعب الأفريقى بعد أن دخل الاحتراف القارة السمراء واستغل المستثمر الأجنبى مزايا لاعبيها الجسمانية وراهن عليها، سوف يفاجأ المواطن المصرى بتفوق الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات الأفريقية التى سيطرق بابها الاحتراف الدولى أيضا، لكن من باب مختلف.
هنا تجذب العمالة الرخيصة والموارد الطبيعية الوفيرة فوائض الاستثمار على مستوى العالم وتبقى عقبة الأمن قائمة لكنها قابلة للحل ولو على يد شركات دولية خاصة يمكنها أن تحمى دولا داخل الدول، نعم فكبرى الشركات متعددة الجنسيات هى فى إيراداتها أكبر من الدول التى تستهدفها ببعض فوائضها، ولو أرادت تلك الشركات أن تؤمّن بقاءها سيكون ذلك سريعا ولن يقابله مقاومة من المواطن الأفريقى المتعطّش للخدمات وفرص العمل. الوطنية سيتغير مفهومها فى القارة البكر، والانتماء إلى دولة أفريقية قوية غنية يتحكم فيها رأس المال الغربى (والشرقى إذا نظرنا إلى الصين المتعطشة إلى خيرات أفريقيا) أفضل من الانتماء إلى دولة فقيرة تدّعى الاستقلال لكنها لا يمكن أن تبقى يوما واحدا بغير مساعدات غربية تتحكم فى كل قراراتها ومصائرها.
***
العالم يتغير بسرعة فائقة من حولنا، وكل دقيقة تمر بغير مواكبة لهذا التغير هى خسارة صافية يتحملها الوطن والشعب والأجيال القادمة. التخطيط كان سبيل رواندا لتحقيق طفرات اقتصادية كبيرة فى زمن قصير، والإرادة السياسية الصادقة حوّلت هذا التخطيط إلى واقع على الأرض، وأعتقد أن الخطوة القادمة الكبرى للاستثمار فى رواندا ستكون فى مجال التنمية البشرية، لتأهيل المواطن ذى الأجر التنافسى ليشغل مواقع العمالة الماهرة، ومن هنا يبدأ الاستقلال الحقيقى للقارة.