أسئلة كثيرة عما جرى ويجرى فى الشرق الأوسط لا نجد لها جوابا، أو لا نقتنع بما يطرح لها من إجابات. من الذى اغتال رفيق الحريرى فى ١٤ إبريل ٢٠٠٥ فى قلب بيروت؟ من الذى هاجم مفاعل أتانز النووى فى إيران؟ ومن الذى يقوم بهذه الغارات الغامضة على مواقع عديدة فى سوريا، ولماذا لا تتصدى الطائرات الروسية للطائرات الإسرائيلية التى تحلق فوق سوريا؟ ولماذا لا تهاجم الجماعات التى ترفع راية الإسلام مثل القاعدة وداعش وفصائلها المختلفة إسرائيل، وتركز كل «كفاحها» ضد الحكومات العربية؟ وما الذى يشجع إثيوبيا على أن تتصلب فى موقفها من السد الذى اكتمل بناؤه فى مواجهة كل من مصر والسودان؟
هذه الأسئلة وغيرها تثير لدى المواطنين إجابات عديدة، يستند معظمها إلى نظرية المؤامرة ذات الأطراف العديدة: هناك إسرائيل، وهناك الولايات المتحدة، وبالنسبة لأسئلة أخرى هناك تركيا والإخوان المسلمون، أو تتوسع نظرية المؤامرة لتشمل كل هؤلاء الأطراف مضافا إليهم الولايات المتحدة وقطر وإيران فى تحالف كونى ضد العرب.
ليس هناك دليل على صحة أى من هذه التفسيرات المستندة إلى نظرية المؤامرة، ولكن المؤكد أن هناك لاعبا خفيا فى سياسات الشرق الأوسط، أو فلنقل إن هناك لاعبين خفيين ينشطون فيه، هم بطبيعة الحال موجودون فى أقاليم أخرى من العالم، ولكن دورهم بارز وفعال فى إقليمنا أكثر منه فى أى إقليم آخر. هذا الفاعل هو أجهزة المخابرات المسئولة عن العلاقات الخارجية لدولها تمييزا لها عن أجهزة الأمن الداخلى التى يقتصر عملها أو اختصاصاتها على إقليم دولتها، وليس لها بالضرورة حضور بارز فى الأنشطة التى تقوم بها حكومتها خارج حدودها.
الدلائل على الدور الذى تقوم به هذه الأجهزة فى العلاقات الخارجية لدولها واضحة. قام يوسى كوهين مدير موساد بزيارة خلال الأسابيع الأخيرة لعدد من الدول العربية على أمل إقناعها بعدم الاعتراض على ما كان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل يعتزم القيام به من ضم لأجزاء واسعة من الضفة الغربية، وتركى الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية من ١٩٧٧ــ٢٠٠١ تحدث أخيرا عن الدور الذى قام به لإقناع إدارة ترامب بوقف الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى يونيو ١٩٨٢، وقد دارت سلسلة من المفاوضات حول سد النهضة شارك فيها رؤساء أجهزة المخابرات فى مصر والسودان وإثيوبيا إلى جانب وزيرى الخارجية والرى فى الدول الثلاث.
صحيح أن أجهزة الاستخبارات الخارجية فى الدول الأخرى خارج الشرق الأوسط تقوم بأدوار مهمة فى جمع المعلومات وتحليلها وعرض تقديراتها وبدائل السياسات الخارجية مثلما تفعل أجهزة الاستخبارات فى إقليمنا، فضلا عما تقوم به من أعمال سرية. وقصص هذه الأعمال، فى وقت الحرب كما فى وقت السلام، معروفة عن هذه الأجهزة فى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى سابقا وروسيا حاليا، وكذلك المملكة المتحدة وفرنسا، وبدرجة أقل عن الصين. ولكن لماذا يبرز دور هذه الأجهزة فى الشرق الأوسط على وجه الخصوص أكثر من أى إقليم آخر فى العالم؟.
لا أدعى أن لى معرفة مباشرة بهذا الموضوع، ولكن دافعى للاهتمام به هو الخصائص الفريدة للإقليم الذى نعيش فيه، وأعتمد فى هذا التحليل على ما قرأت فى مصادر منشورة، وما انتهيت إليه من اجتهادات مستوحاة من دراساتى فى العلوم السياسية.
لماذا فى الشرق الأوسط تحديدا
تتعدد الأسباب التى تجعل من الشرق الأوسط مسرحا مغريا لنشاط أجهزة الاستخبارات الخارجية سواء كانت هذه الأجهزة تابعة لدول الإقليم أو من الدول الكبرى خارجه. طبعا قصة هذه الأجهزة فى إقليمنا ليست جديدة. قصة لورانس والثورة العربية الكبرى فى العقد الثانى من القرن العشرين تحكيها كتب وفيلم سينمائى شهير، ولكن الجديد حقا هو اتساع دورها بعد انتهاء الحرب الباردة وانتقال العالم إلى مرحلة جديدة فى تاريخ النظام الدولى تتسم بانهيار القواعد التى كانت تحكمه فى ظل توازن القطبية الثنائية بل والاستهانة بأى قواعد كانت موضع القبول فى ظل ذلك التوازن مثل عدم جواز التدخل فى الشئون الداخلية للدول، والتى أصبحت سمة لسلوك القوى الإقليمية الوسطى بل وبعض الدول الصغيرة بعد أن كانت هذه الاستهانة قاصرة على القوى الكبرى فى عهد الثنائية القطبية. وإذا كانت هذه القواعد تلقى احتراما بدرجة أكبر فى أقاليم أخرى فى العالم، وليس فقط فى الدول المتقدمة، كما هو الحال مثلا فى أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء ُفإن هذه الاستهانة تبلغ أقصى حدودها فى الشرق الأوسط تحديدا. ربما يكون السبب فى ذلك أن التنظيم الإقليمى له مصداقية أكبر فى تلك الأقاليم الأخرى كإطار لحل المنازعات سلميا بين الدول مثل منظمة الدول الأمريكية وترتيبات التكامل الإقليمى بين أعضائها، أو الاتحاد الإفريقى والترتيبات المماثلة بين الدول الإفريقية، ولكن ربما يكون التفسير الأصدق هو أن حكومات الدول خارج الشرق الأوسط عازفة عن التدخل فى الشئون الداخلية للدول المجاورة لأنها تحترم حدودها حتى لو كانت موروثة من العهد الاستعمارى. أما فى الشرق الأوسط فلا يوجد مثل هذا التوقع، بل هناك رفض لمجرد وجود حدود للدول الأخرى، وهناك مبررات كثيرة لرفض وجود حدود، منها أن تلك الحدود غير مقبولة لأنها من صنع القوى الاستعمارية، أو لأنها تقوم بين شعوب تنتمى إلى أمة واحدة بحكم رابطة الدين، أو أن الدولة القائمة هى وريثة إمبراطورية سقطت وهى تريد استعادة ما تعتبره حكومتها ممتلكاتها السابقة، أو أن حكومة دولة شرق أوسطية تعتبر نفسها حاملة لدعوة ثورية وتريد نشر هذه الدعوة فى دول الأنظمة المحافظة المحيطة بها. وأخيرا تستند إسرائيل إلى أن ما تقوم به من توسيع لحدودها أو انتهاك لحدود دول مجاورة هو تلبية لنبوءة توراتية أو هو ببساطة ضرورة أمنية.
والسبب الثانى الذى يفسر توسع دور هذه الأجهزة كأداة لخدمة السياسة الخارجية لدولها هو إضفاء الطابع الأمنى على الكثير من خلافات الدولة مع الدول المجاورة أو حتى على بعض القضايا الداخلية. الخلاف بين البرازيل وأوروجواى مثلا أو بين إيطاليا وفرنسا قد يكون خلافا على استخدام مياه نهر مشترك أو موقف اللاجئين ولكنه لا يتحول إلى قضية أمن قومى، وذلك على عكس الحال فى الشرق الأوسط، حيث تجرى أمننة الخلافات مع الدول المجاورة بل يمتد الأمر أيضا إلى بعض القضايا الداخلية مثل احترام الحق فى التعبير أو التنظيم أو إقامة أحزاب سياسية أو حتى المساواة فى المواطنة. أمننة هذه القضايا واضحة مثلا فى الخلاف بين تركيا والحكومة السورية، أو بين إيران والمملكة العربية السعودية أو حتى بين المغرب والجزائر، وكذلك بين قطر من ناحية والسعودية ومصر والإمارات والبحرين، ولذلك تتحول هذه الخلافات إلى قضايا تستعصى على الحل المتوازن، والتسوية الوحيدة الممكنة هى إما بتغيير النظام فى الدولة الخصم أو السيطرة عليها بقوة السلاح أو بتمكين عناصر موالية من تولى الحكم فيها. والسبيل إلى ذلك هو بالتعويل على أجهزة الاستخبارات فى تحقيق ذلك.
السبب الثالث هو الهوة الواسعة بين الخطاب العلنى للحكومة وما تريد تحقيقه على أرض الواقع. تعلن بعض الدول أنها تتضامن مع الفلسطينيين وتشجب الاعتداء على حقوقهم، ولكنها تميل للتعاون مع إسرائيل تصورا أن لهما عدوا مشتركا، ولكنها لا تجرؤ على الاعتراف برغبتها فى التعاون مع إسرائيل، ولذلك تحافظ على خطابها العلنى المساند لقضية الشعب الفلسطينى وحقه فى إقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف، ولكنها تولى لشخصيات فى أجهزتها الاستخباراتية إما التواصل مع أجهزة إسرائيلية أو ترتيب زيارات واتفاقات سرية بين قادتها والقادة الإسرائيليين، على نحو ما كشف الأخيرون وكشفت صحفهم.
والسبب الرابع هو الثقة فى أجهزة الاستخبارات، فقد كانت القوات المسلحة وقوات الأمن هى أول القطاعات التى حظت بالتحديث فى دول الشرق الأوسط، وفضلا على ذلك وكما هو الحال فى الدول المتقدمة وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية تتعاون أجهزة الاستخبارات مع خبراء مدنيين فى مجالات عديدة، ومنها علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد، كما كشفت عن ذلك دراسة حول تعاون المخابرات العسكرية الإسرائيلية مع أساتذة الشرق الأوسط الإسرائيليين، وكما تتعاون مؤسسات الاستخبارات الأمريكية مع بيوت الفكر الأمريكية الشهيرة. ولذلك تصبح هذه الأجهزة بما يخرج عنها من تقديرات وتحليلات موضع الثقة من جانب حكوماتها، ليس فيما تقوم به من أنشطة سرية فى قضايا حساسة فحسب، ولكن فيما يخرج عنها من نصيحة ومشورة فى قضايا السياسة الخارجية، واطمئنانا إلى أنها خير من يقوم بتوجيه تنفيذ بعض السياسات.
والسبب الخامس يتعلق بالدول الكبرى التى تتدخل فى الشرق الأوسط وكذلك بعض القوى الإقليمية فيه. مع سقوط التحالفات الصارمة بعد انتهاء الحرب الباردة والتى كانت تقوم على أسس إيديولوجية مشتركة أو ضرورات أمنية، ومن ثم تستلزم من أعضائها مواقف مشتركة فى كل القضايا ذات الاهتمام المشترك، أصبح سلوك الدولة الخارجى يستند إلى تفسيرها لمصلحتها الوطنية كما تراها نخبتها الحاكمة فى كل موقف محدد، وقد تتفق هذه المصلحة مع مصلحة دولة معينة فى قضية محددة، ولكنها لا تتفق مع مصالحها مع تلك الدولة فى قضية أخرى، ولكن تخشى حكومتها إظهار هذا الخلاف، ومن ثم تعهد إلى جهازها الاستخبارى بتأمين التواصل مع دولة ثالثة تتفق مصالحها مع حكومتها فى تلك القضية الأخرى. وربما يفسر ذلك نمط علاقات مصر مع كل من الصين وروسيا وإسرائيل والتى تشارك إثيوبيا إما فى تنفيذ مشروعات مرتبطة بالسد الذى بنته أو فى توفير الدفاع عنه على الرغم من علاقاتها الوثيقة بمصر.
الفرصة والمخاطر فى توسع دور الفاعل الخفى
لا شك أن توسع دور الفاعل الخفى فى صنع وتنفيذ السياسة الخارجية لدول الشرق الأوسط والدول الكبرى المتدخلة فيه قد وفر لهذه الدول مرونة أكبر فى تنفيذ سياساتها الخارجية وقدرة أكبر على التكيف مع تباين مصالح الدول الصديقة لها فى الإقليم، ولكنه من ناحية أخرى أضفى قدرا من الغموض وغياب الشفافية على نواياها الحقيقية. طبعا فى مجال السياسة الذى لا تحكمه الاعتبارات الأخلاقية ولكن مصالح الدولة كما تراها الجماعة الحاكمة فيها، قد يكون فى غياب الشفافية والغموض ميزة فى مواجهة الدول الأخرى، ولكنه يسبب مشكلة فى الدول ذات النظام الديمقراطى التى تتطلع لأن يكون عمل هذه الأجهزة فى إطار القيم التى يرتضيها مجتمعها، وقد أثار ذلك نقاشا حول مدى فعالية رقابة المؤسسات المنتخبة على هذه الأجهزة.